مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

المشاهدة والرواية

قد ساعدت الرحلة على اكتشاف موطن الإنسان على كوكب الأرض، وجعلت الإنسان يدرك مدى انتشاره، وأن البشر قد سلكوا طرائق متعددة في حياتهم، وتعددت لغاتهم وألسنتهم، وتنوعت تقاليدهم وعاداتهم ومعتقداتهم، وسُجلت هذه المعلومات والملاحظات ونُشرت في كتب بأسلوب أدبي شيق ممتع فالتهمها القراء، وبها اشتهر أدب الرحلات من خلال النشر الورقي.
إذا كان (ماركو بولو) قد حظي بشهرة عظيمة بين رحالة عصور أوروبا الوسطى، فقد نال (ابن بطوطة) (703 - 779هـ / 1304 - 1378م) لقب أعظم الرحالة المسلمين على الإطلاق. واستمرت الرحلات من بعده وازدهر أدب الرحلات.
لكن في العصر الحديث وبعد التقنية الحديثة واستحداث الآلة والوسيلة اللتين بواسطتهما يتم الرصد الدقيق والتوثيق والحصول على كم هائل من المعلومات عن الأرض وكل من بها، وما بها، فقد تمكن العالم أن يلم بقدر هائل من المعرفة والمعلومات عن الإنسان والعالم، فلم يعد هنالك مكان مجهول أو قوم مجهولون من البشر على الأرض. وما عادت هنالك حاجة لرحالة يجوبون العالم، متحملين مشقة السفر ومخاطره والغربة، وتباين الألسنة وصعوبة الترجمة والفهم، والعادات والتقاليد. فقد تعددت القنوات الوثائقية بشتى ضروبها والتي تنقل الحدث حياً مباشراً في سهولة وسلاسة وجاذبية، ليس من الأرض فحسب بل من الفضاء وأعماق البحار والمحيطات، لذلك انحسر أدب الرحلات والنشر الورقي وحل محله الرصد التقني، في وقت أضحت فيه القراءة من الكماليات.
إن ما يقدمه الرحالة معلوماتياً مختلف عما تقدمه دوائر المعارف والتقارير وما ينشر في الحاسب من معلومات عن الأماكن.
والرحالة قد تتعدد مشاربهم وثقافاتهم، فمنهم رجال دين، رجال سياسة، هواة سفر وترحال، ومن استهوتهم روح المغامرة والمخاطرة لاكتشاف المجهول، وأياً كانت دوافع الرحالة والتباين في سجاياهم إلا أنهم تميزوا وبدرجات متفاوتة بدقة الملاحظة والتفصيل والوصف والتقصي في تسجيل ملاحظاتهم بأمانة وصدق، كما حرص معظمهم على التفرقة ما بين المشاهدة والرواية عند تسجيل معلوماتهم وملاحظاتهم، وإن مادة رحلاتهم قد زخرت بالعناصر الأدبية، وقد درج بعض الكتاب العرب على استخدام عبارة (أدب الرحلات) إشارة لكتابات الرحالة المسلمين وغيرهم الذين يصفون البلدان والأقوام والأحداث ودوافع الرحلة وانطباعاتهم الشخصية وإصدار أحكام تقويمية، علاوة على الأسلوب القصصي الروائي الأدبي السلس، مما أدخله ضمن فنون الأدب العربي.
أما دوائر المعارف فإنها تحتوي على معلومات عامة حول معلومات عن المعرفة الإنسانية أو متخصصة في موضوع معين، ويغلب على معلوماتها الاختصار، وتعتمد على دقة التنظيم بحسب الترتيب الهجائي ليسهل على المستفيد الرجوع إليها بأقل جُهد.
عندما نقارن بين سرد الأديب المتخصص وكتابة الرحالة العادي نجد موضوع ومنهج الإثنوجرافيا، تعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة والتقاليد والعادات والقيم والفنون والمأثورات لدى مجتمع معين في فترة زمنية معينة، في ثنايا كتابات الرحالة وإن لم تكن الدراسة الإثنوجرافية هدفهم الأساس، وتشكل الرحلة مطلباً رئيساً للدراسة الحقلية الإثنوجرافية إلا أن الإثنوجرافي لا يهتم بالرحلة لذاتها، وما ينجم عنها من أحداث ومواقف قدر اهتمامه بوصف المكان الذي قصده والناس الذين تعايش معهم لفترة طالت أم قصرت، عكس الرحالة الذي تشكل عنده الرحلة الموضوع والهدف، فإذا قلنا إن أدب الرحلات يصور أساساً خبرة اتصال الرحلة بثقافة معينة (أو ثقافات)، فإن الإثنوجرافيا تهدف أولاً إلى وصف وتحليل الثقافة (أو الثقافات) في حد ذاتها، بينما يقوم الإثنوجرافي برحلته قاصداً مجتمعاً بعينه لدراسة مركزة تستدعي إقامته لمدة لا تقل عن عام حتى يتوقف على أنشطة المجتمع وطبيعة الحياة اليومية وما يصحبها من عادات وتقاليد وطقوس خلال فصول السنة الأربعة، بينما نجد الرحالة غير ملتزم بالإقامة زمناً ومكاناً، ولا يتقيد بموضوع معين، الإنثوجرافي يعد مادته ويحللها وينشرها في ما اصطلح عليه بـ(المونوجراف) أي (وثيقة الوصف المتكامل لثقافة معينة)، فإن الرحالة قد ينتهي به الأمر إلى تدوين مذكرات عن الرحلة، أو قد يحتفظ بوقائعها في ذاكرته، ويكتفي بروايتها لمن يرغب في الاستماع إليها. إن نتاج العمل الإثنوجرافي هو الدراسة التي تخضع لقواعد وأصول معينة، أما أدب الرحلات فهو (رواية التفاعل بين الذات والآخر) والذي يُترك فيه للرحالة حرية التعبير الكاملة، وهذا لا يعني أن العمل الإثنوجرافي يتصف بالموضوعية، وأن مادة الرحلات ذاتية بمعنى أنها تتضمن تحيزاً صارخاً من قبل الرحالة، لأن الإثنوجرافي لا يخلو أيضاً من التحيز الذي لا يرد إلى شخصية وخصال الباحث فقط وإنما إلى توجهه الذهني (الفكري) أيضاً.
لمعت أسماء في الوطن العربي في العصر الحديث عرفت برحلاتها، حيث كانوا يرحلون إلى العالم الغربي لأخذ العلوم والمعارف ويدونونها وتنشر كتباً والتي أسهمت إسهاماً فاعلاً في النهضة، ومن هؤلاء على سبيل المثال رفاعة رافع الطهطاوي الذي سافر إلى فرنسا ضمن البعوث العلمية وكان إماماً للبعثة وقد نصحه شيخ الأزهر عند وداعه أن يدون مشاهداته وملاحظاته، وقد دون رحلته ومعلوماته وملاحظاته في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) وكان يعرض في هذا الكتاب مظاهر الحياة الفرنسية، ووصف الحضارة الغربية، وكان لهذا الكتاب أثر فاعل في حياة العالم العربي.
ومن الرحالة العرب في العصر الحديث محمد عمر التونسي الذي دون رحلته في كتابه (تشحيذ الأذهان)، ومحمد عبدالله عنان وداؤود بركات اللذان سافرا إلى الشرق والغرب. ومحمد فريد الذي قام برحلاته إلى الجزائر وتونس وفرنسا. والشيخ ناصر محمد العبودي (مدينة بريدة 1345هـ) الذي لقب بعميد الرحالين وكتب أكثر من مئة كتاب في رحلاته، ومن كتبه، (في أفريقيا الخضراء مشاهدات وانطباعات)، و(رحلات في القارة الأوروبية: من روسيا البيضاء إلى روسيا الحمراء)، و(كنت في بلغاريا: رحلة وحديث عن أحوال المسلمين).

ذو صلة