تستعيد الرحلة، بوصفها نصاً ثقافياً، وهجها في الثقافة مرة أخرى بعدما سادت فترة طويلة ضمن تجنيسها الذي ظل منفتحاً في ملتقى أجناس من قبيل الأدب والتاريخ والجغرافيا، ومدوِّنة لمعارف عصرها، ونافذة يطل منها الأديب والمؤرخ والفقيه والدبلوماسي والرجل العادي أيضاً، في وُجهات اختلفت بين أهداف سياحية ودبلوماسية وزيارية وحجية.
تستعيد الرحلة حضورها بعد انحسارها المؤقت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نظراً لشكلها التقليدي الذي لم يستطع التفاعل من أشكال السرود الجديدة، من رواية وقصة ومسرح ومقالة، لكنها سرعان ما ستجد سبيلها للعودة وقد تأقلمت مع حداثة العصر ولغته وأسلوبه فانوجدت نصوص رحلية جديدة تعبر عن العصر وتحولاته.
لقد انحسر نص الرحلة بالمفهوم التقليدي، بحيث لم نعد نرى رحلات بالصيغة القديمة التي لا تحتفي إلا بالوصف والمعلومات، ولكننا اليوم أمام نصوص رحلية كأنها روايات تمنح للمكان مساحة تحمل من المعرفة والخيال ما يضفي عليها التشويق والحياة. وأعتقد أن نص الرحلة سيتطور وسيتخذ أشكالاً أخرى تعتمد على الكلمة والفيديو والصورة ومطارحة قضايا جديدة، وسيساهم التطور التقني في دعم الثقافة والأدب والكتابة.
وإني لأجزم أنّ ما يقدمه الرحالة معلوماتياً مختلف عما تنشره دوائر المعارف والتقارير وما ينشر في الحاسب من معلومات عن الأماكن. فالمعرفة التي تنبني على تجربة ووعي تحمل من الذاتي والموضوعي ما يجعلها مهمة وإن لم تقدم نتائج كبيرة، دون أن ينفي هذا صيغ التقارير العلمية والتي عادة ما تكون جافة.
إن المعرفة التي تقدمها الرحلة ذات نكهة ترتبط باسم صاحبها، سواء أكان عالماً أم مؤرخاً أو أديباً، ولا أدل على ذلك مما قدمه ابن فضلان في رحلته إلى بلاد روسيا في نهاية القرن التاسع الميلادي، حيث أصبحت المعلومات التاريخية والثقافية التي دوّنها من منظوره هي الوثيقة التاريخية المعتمدة حول تلك الفترة، كما أن ما قام به ياقوت الحموي (ق 12م) في رحلاته التي جمع فيها معجمه الضخم والمهم. وهناك أيضاً مسألة مهمة في أهمية النص الرحلي في صيغته التأليفية، فقد خرج في سنة 1325 ميلادية الرحالة ابن بطوطة والرحالة خالد البلوي في اتجاه الجزيرة العربية بنية الحج، وبعد ذلك سنقرأ عن رحلتين شبه مختلفتين وهو نفس الأمر الذي يمكن ملاحظته في رحلات كثيرة عربية وأوروبية.
لا مراء أنّ هناك دائماً فروقاً جوهرية في كل ما يُكتب وفي كل الأجناس، لأن الكتابة متاحة للجميع، خصوصاً في الراهن أمام تطور النشر الورقي والإلكتروني، لكن الفرق واضح في الكتابة التي تحقق الإبداع والمعرفة وفي الكتابة التي هي تقرير في أحسن الأحوال.
كتابات الأديب المتخصص في الرحلات الكلاسيكية أو المعاصرة تحمل مضامين بأساليب مميزة، وتقدم رؤية للذات وأخرى حول الغير، وهو ما يمكن التمثيل له في نصوص من قبيل رحلة ابن فضلان ورحلة العبدري ورحلة ابن بطوطة ورحلة العياشي أو الرحلات التي توجهت نحو أوروبا مثل رحلات ابن عثمان المكناسي ورحلة الطهطاوي ورحلة الصفار والكثير من النصوص التي تحولت إلى علامات في الكتابة العربية.
أما الرحالة العادي فكتابته، في الحالات العامة، تبقى سطحية ومحدودة، وهناك نماذج كثيرة من هذه النصوص الرحلية القديمة التي لا تتجاوز وصف الطرق واستنساخ ما كتبه غيرهم.