لقد أحدثت الثورة اللسانية التي فجرها فرديناند دي سوسير مطلع القرن العشرين- تحولاً مهماً في المفاهيم والتصورات، وكان لتحديد الثنائيات اللغوية أثر عميق في احتلال اللغة مكانة مركزية بين الحقائق التي شكلها الوعي الإنساني، وتمت، استناداً إلى ذلك، إعادة تعريف معظم مفردات الثقافة الإنسانية. وعندما حدد جاكوبسون وظائف اللغة صارت جميع الخطابات التي صاغتها البشرية قابلة للتجنيس والتحديد المفهومي قياسياً، وقد وظّف الشكلانيون الروس هذه الفتوحات في إعادة تعريف مفهوم الأدب ونقده، فكشفوا أنّ الفوارق بين الأدب والنثر فوارق في الخصائص التعبيرية، وأنّ مهمة الدرس النقدي ليست الأدب إنّما الأدبية، وأنّ الأدبية سماتٌ وخصائص تعبيرية تجعل من الكلام العام أدباً مخصوصاً، وبهذا فقد تمّ تحديد مفهوم الأدب تحديداً علمياً دقيقاً وشاملاً، فالأدب، ومن هذا المنظور، كلام تم تحويله إلى أدب استناداً إلى خصائص أسلوبية تراوح بين الإيقاع والانزياح.
لقد أدّتْ هذه التحولات اللغوية والنقدية والأدبية المتسارعة إلى ميلاد عدد من نظريات الأدب ونقده، وقد برزت، من بين هذه النظريات، نظرية الأجناس الأدبية التي لعبت دوراً مهماً في تقسيم الأدب إلى أجناس أدبية: كالرواية، الشعر، القصة القصيرة، المسرحية... إلخ. وعلى الرغم من المرونة التي ميزت نظرية الأجناس الأدبية -فإنّها لم تستطع تجنيس جميع الأشكال الأدبية، فنصوص مثل: المقامات، ألف ليلة وليلة، رسالة الغفران، الكوميديا الإلهية... إلخ- لم تجد مكاناً بين الأجناس الأدبية، وقد أدى هذا الأمر إلى نقد أسس نظرية الأجناس من قبل نقاد كبار: كجيرار جينيت وتودوروف وغيرهما، فذهبوا إلى أنّ الصيغ التعبيرية هي المقوّم الأساس لأدبية النصوص، وأنّ خروج نصٍّ أدبي من دائرة الأجناس لا يعني خروجه من دائرة الأدبية، إنّما يشير ذلك إلى أنّ جنساً أدبياً جديداً قد تمّ اكتشافه أو أنّه في طور التشكّل، وذهب آخرون إلى رفض نظرية الأجناس الأدبية من حيث المبدأ، وفضلوا على ذلك النظر إلى النصوص بوصفها صيغاً تعبيرية فريدة يستحيل تطابقها مع غيرها. إنّ هذا الاتجاه النقدي الجديد الذي قاده نقاد السرديات- قد فتح الباب واسعاً أمام الأشكال الأدبية التي لم تجد حظها من الدرس في تاريخ الأدب ونقده، وانفتحت نظرية الأجناس الأدبية لتستوعب أجناساً أدبية جديدة: كالمقامات، ورواية السيرة الذاتية، وأدب الرحلة، وغير ذلك. ولمّا كان السردُ من أبرز الصيغ التعبيرية التي شغلت نقد القرن العشرين- فإنّ السرديات لم تترك صيغة سردية دون فحص مقوماتها وكشف أسرارها الأدبية، ومن هذه الوجهة دخل أدب الرحلة ضمن دائرة الأجناس الأدبية، فما أدب الرحلة؟ وضمن أي جنس أدبي يتم إدراجه؟
لعقود قريبة كانت تواجه دارس أدب الرحلة صعوبات جمة في تحديد حقله ومصطلحاته ومفاهيمه التي تسمح باستكناه أبعاده بوصفه خطاباً متجذراً في التاريخ، وحاضراً في الراهن الذي نعايشه، وذلك لعدة أسباب هي:
صعوبة التجنيس: إنّ الرحلة مدونة لغوية تتميز بثراء مادتها العلمية من حيث الكم والنوع، فهي ثرّة بما تقدمه من معلومات عن الأماكن والفضاءات والأزمنة والأشياء والبشر والكائنات، وأنّ هذا الثراء المعلوماتي جعلها مجال اهتمام من قبل عدة حقول معرفية، كونها تمثل مصدراً تاريخياً وجغرافياً وسوسيولوجياً وأنثروبولوجياً، وأنّ النظر إلى أهميتها التوثيقية قد طغى، ولفترات طويلة، على قيمتها الأدبية.
الوفرة والتباين: إنّ المتأمل في أدب الرحلة يصطدم بمادة غزيرة تشغل مساحة زمنية واسعة، وتضم أشكالاً تعبيرية غير مطردة النظام والموضوعات والأساليب، وقد حال هذا التشتت دون استنباط قانونٍ عام أو حبكةٍ مركزية تختزل هذه الكثرة في نظرية واضحة المعالم.
تباين الأسلوب: لقد تباينت أساليب الرحالة في تدوين رحلاتهم، فبعضهم لجأ إلى الوصف المحض كما فعل ابن حوقل في كتاب المسالك والممالك، وبعضهم لجأ إلى أسلوب السرد القصصي المتتابع كما فعل ابن فضلان في رحلته إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة، وبعضهم لجأ إلى تنويع الأساليب من قصص ووصف وشعر، وجمع بين العجائبي والواقعي كما فعل ابن بطوطة في رحلته التي تسمى تحفة النظار في غرائب الأمصار. وفي العصر الحديث أخذ أدب الرحلة يقترب من السرد الروائي الحديث، مستفيداً من تقنيات السرد التي أرسى قواعدها كتاب الرواية بصفة عامة وكتاب رواية السيرة الذاتية بخاصة.
تنوع أسلوب السرد والإخراج: لقد اتبع معظم الرحالة أسلوب السرد المباشر من خلال تدوين رحلاتهم كتابة، فجاء سرد رحلاتهم مسنوداً إلى ضمير (الأنا)، أي إنّ الرحالة هو المؤلف والبطل والراوي، وتمثل رحلة ابن فضلان أبرز أمثلة هذا النوع. واتبع آخرون أسلوب الإملاء على المدونين، فجاء سرد رحلاتهم مسنوداً إلى ضمير (الهو)، أي، إنّ الراوي يختلف عن المؤلف والبطل، وتمثل رحلة ابن بطوطة أبرز الأمثلة على هذا النوع، حيث الراوي هو ابن جزّي والبطل الذي تراجع إلى راوٍ ثانٍ هو ابن بطوطة.
كثرة العتبات: إنّ كثرة المقدمات التي تسبق سرد الرحلة قد صعّب تجنيس الرحلة ضمن الأدب القصصي السردي، كون معظم هذه المقدمات جاءت في لغة نثرية تقريرية توحي بأنّ المدونة عمل تاريخي توثيقي لا علاقة له بالأدب، لذا ينبغي على دارس الرحلة من منظور أدبيّ أنْ يُفرّق بين العتبات والرحلة التي هي صيغة سردية لقصة مغامرٍ ما.
استناداً إلى ما سبق فإنّ أدب الرحلة هو أدبٌ قصصيٌّ سرديٌّ، يسرده، في الغالب، بطل الحكاية بنفسه، وأحياناً يسرده راوٍ من الخارج، وهو أدب يكشف عن قصة مغامرٍ مستكشفٍ عبر فضاءات وأمكنة وازمنة متنوعة، مغامرٍ يسعى إلى استكشاف طبائع البشر والأماكن والكائنات والأشياء والحكايات الغريبة والأساطير التي سمعها أثناء تطوافه أو قام بتخييلها. أما تجنيس أدب الرحلة فيكفي القول إنّ الرحلة (سردية)، أي، إنها حكاية تتوافر فيها جميع عناصر السرد، وبذلك يكون أدب الرحلة من جنس الخطابات التي تدرس بنيتها الشكلية مناهج السرديات - Narratology.