مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

التشويق والتخييل

طُبع العرب على الرحلة قديماً، فكانت أسفارهم تربط بين الشمال والجنوب، بل كانت الرحلة من صميم الدين، فأُلِّف ما لا يُحصى من المصنفات في باب الرحلة الحجية، هذا إلى جانب الرحلات الجغرافية والأنثروبولوجية التي اهتمت بالمجال والحالِّين فيه وغيرها من الرحلات الأخرى التجارية التي فتحت أقاليم بعيدة كالصين والهند في زمن مبكر. والناظر في المدونة الرحلية العربية القديمة يقف على قيمتها التوثيقية والفنية معاً، فرحلات المسعودي وابن فضلان وابن بطوطة وغيرهم معين من المعارف المتنوعة تُقرأ بفضلها أمم مثل الصين وروسيا والهند تاريخها، وقد استلهمت السينما الأمريكية تلك النصوص في أفلام الخيال العلمي والتاريخ، كما تستخدمها اليوم الصحافة الصينية والروسية والهندية للتذكير بالعلاقات العريقة مع العالم العربي وتفعيل المبادلات الجديدة في جميع المجالات. إن المادة التاريخية هائلة في كتب الرحالة قديماً، ولكن هذا لا يحجب عنا أهمية تلك الكتابة بوصفها سروداً أخضعها أصحابها لنظرتهم وحساسيتهم ومفاهيمهم الخاضعة بدورها للمحيط المعرفي الذي نشؤوا فيه.
اللافت للانتباه أن كتابة الرحلة تحتفظ إلى اليوم بقيمة مهمة رغم مرورنا إلى عالم رقمي تغزوه الصورة وتزول فيه باستمرار الحواجز الجغرافية بفعل الواقع الافتراضي الذي أضحى يختزل واقعنا الطبيعي، ولكن في ضوء تحول في خطة الكتابة من التركيز على الأفضية والأماكن وما يعنيه ذلك من الوصف الخارجي إلى التركيز على الذات الساردة ووصف مشاعرها وأحاسيسها وانطباعاتها الداخلية، لتقترب الرحلة، شيئاً فشيئاً، من الكتابة الانفعالية العاطفية المنتجة لصور الذات، وهي صور تتوافق مع عصرنا الرقمي حيث السائد هو إنتاج هاته الصور الذاتية على الشبكة العنكبوتية وفي مواقع التواصل الاجتماعي ولا تتطلب بلاغة القول، فكتابة الرحلة لم تكن أبداً مشروطة بالشرط الأدبي البلاغي، ما جعلها مفتوحة على العالم ومستوعبة له ومتاحة عبر الأزمنة لكل من امتلك إرادة الكتابة.
يمكن أن نقرأ اليوم لعرب يكتبون عن الصين وألاسكا ونيويورك وطوكيو، ونقرأ كتباً كثيرة عن المدن العربية مغرباً ومشرقاً ومعالمها وساحاتها وتقاليدها ولغتها، وهذا يعني أن كتابة الرحلة تحتفظ بوهجها بسبب تعبيرها عن الفرد، هذا المفهوم المؤسس لعالم اليوم والجاذب لمفاهيم كبرى كالحرية والشفافية والتواصل، ويسمح هذا المهاد بإنتاج البورتريهات أو الصور الشخصية بما يعبر عن الفردية كما يظهر ذلك خصوصاً في أنشطة المدونين، ويتجاوزه إلى خوض مغامرة التخييل الذي يطال ذروة التشويق، فإن الرحلة تمنح هاته الإمكانية أيضاً لتنافس الرواية، وقد وظفت الرواية، عند كتاب كثر في الغرب وعندنا، تقنية السفر لتعمق بناها الزمانية والفضائية، وتثري الشخصيات والأحداث، وتحقق التشويق المتواصل، كما في الرواية التاريخية والبوليسية ورواية الخيال العلمي، وإنا لنتساءل ماذا يتبقى من هاته الروايات لو حذفنا الرحلة بما هي انطلاق من نقطة ما وعودة إليها، أي هذا الهيكل الذي تنهض عليه كتابة الرحلة بما هي كتابة استرجاعية في الأصل؟ إن السؤال الأساسي يتعلق، في اعتقادي، بتحويل الرحلة من مجال الواقع إلى مجال الكتابة المرئية على المحامل الإلكترونية الجديدة ربما تطيح بسطوة تقنية الاسترجاع التقليدية التي تتطلب وقتاً قد يطول بسبب من صعوبة التواصل الورقي. ويتصل هذا السياق الجديد، من ثم، بإنتاج صور الذات والآخر ونشرها في لمح البصر وعلى نطاق واسع وإثارة ما لا يُحصى من التعليقات بفضل الصحافة المكتوبة والمرئية والمنصات الإلكترونية، أليست كتابة الرحلة، من هاته الناحية، تماماً كما من جهة التشويق والتخييل بنت العالم الرقمي مدارها على بناء الصور والتأثير بها؟ ثم إن كتابة الرحلة قد تسربت باستمرار إلى ما يُدعى بالأجناس الأخرى حيث تتحول الرواية المهيمنة في عالمنا اليوم إلى سرد سيرذاتي أو اعترافي أو تأملي يمتح من التجربة الحياتية بشكل ملحوظ، كما تتسرب إلى ما يُدعى بالفنون الأخرى كالرسم والتصوير والنحت والسينما والمسرح حيث ينكشف العالم الإنساني الحميمي.
إن العلاقة بين الشرق والغرب، وهي علاقة شائكة يغذيها صراع الحضارات اليوم بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، لتظهر في المدونة الرحلية المعاصرة ومن خلال وجهة نظر الكاتب الرحالة الذي يشق طريقه إلى المدن ويعبر البحار بلباسه المدني أو العسكري أكثر مما تظهر في التقارير الصحفية التي توجهها المؤسسات الإعلامية، ولنتخيل مقدار إفادتنا من قراءة رحلة يكتبها جندي أمريكي بنزعة ذاتية في العراق، ذلك أن وجهة نظر ذات مجربة بهذا القدر ستمنحنا عينة لا تقدر بثمن عن حياة الأمم وتناحرها ومحيطها المذهبي ورموزها وأبعاد الصراعات الخفية المجهولة بين القوى المتناحرة التي لن تُكتشف واقعياً إلا بمرور العقود الزمنية. ويعني هذا أن الرحلة جزء لا يتجزأ من التاريخ لا الحدثي وإنما التاريخ المصغر الذي يصور عواطف الأفراد من حزن وفرح وحماسة وأساليب تفكيرهم أمام التغيرات الحاصلة في مجتمعاتهم كما هو الأمر اليوم في عالم يحاصره كوفيد 19 من كل الجهات ويغلق عليه منافذ التواصل الطبيعي، ويعيدنا هذا إلى دور الرحلة في إنتاج الصور المعبرة عن الحياة والعصر.
وإذا كانت العولمة قد تحققت جزئياً في الماضي، فظهرت على عهد المأمون تلك الخريطة المسماة بالصورة المأمونية التي رُسمت عليها الدنيا بسماواتها ونجومها وبحورها ويابستها وأصقاعها المأهولة وغير المأهولة ومواطن شعوبها وغير ذلك كما يذكر المؤرخ الروسي ديمتري ميكولسكي، فإن الرحلة اليوم ترسم في بنية رقمية لا نهائية ولا محدودة تواريخ الأفراد على الحواسيب وتنتج صور العلاقات بين الشرق والغرب والشمال والجنوب وبين العرب وغيرهم في عصور ازدهارهم وانحطاطهم، وما كان لهذه الصور أن تزدهر هذا الازدهار لولا الزمن الرقمي حيث أضحى في مكنة الإنسان أن يحلق من غير أجنحة ويقتحم الجغرافيا المادية من شاشة حاسوبه أو هاتفه المحمول، وأن يشاهد رحلة حي بن يقظان للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل وصداها في رحلة روبنسون كروزويه للكاتب الإنجليزي دانيال ديفو في نفس الآن.
يتأسس الزمن الرقمي على الذاكرة، وهذه الذاكرة مشروطة أولاً بما يطلق عليه علماء الإعلامية المتغيرات أي الذوات والأشياء، وثانياً بما يطلقون عليه القيم الملحقة بها أي الصفات التي ترسي خصائصها ومميزاتها، لا وجود لعالم رقمي دون هاته الثنائية، فانعدامها يعني الفوضى وانهيار كل معنى. إن كاتب الرحلة اليوم متغير وكل مواضيعه من ذوات وأشياء متغيرات وكل ما يلحق به وبمواضيع قوله تلك قيم، وقد اندمجت هاته المتغيرات والقيم في عالمنا الرقمي مؤسسة ذاكرتنا على أسس جديدة لا تعترف بالحدود وتنطق باسم العولمة المتوحشة حيث تسمح كتابة الرحلة بالوقوف على آلام الذات المتجسدة خصوصاً في غربة الإنسان المعاصر نتيجة تشييئه وانغماره في دورة استهلاكية طاحنة في عالم ينفرط إلى الأمام بقوة التقنية ودون أي رادع. أليست كتابة الرحلة صوت الذات في الزمن الرقمي المزدحم بالضوضاء والأضواء والهواجس والأحلام بما في ذلك صوت هذه الذات العربية بتراثها الهائل وواقعها الملتبس؟

ذو صلة