على الأرجح، فإن حب الكائنات على اختلافها، بممالكها الثلاث: الحيوان والنبات والجماد؛ هو ما كان على علاقة بلب فلسفة الحركة الرومانسية التي نشأت في بداية القرن التاسع عشر، وربطها بعض أهم المنظرين بعصر النهضة، ممثلاً بذروته: العصر الوسيط 1914.
فالانحياز للأشياء، قبل أن يكون عنواناً لكتاب أدبي شعري يضم أعمالاً للشاعر فرنسيس بونج (1899 - 1988)؛ كان في حقيقته يمثل فلسفة الشاعر التي عاشها سنين طويلة وانتهى عليها من دون تغيير.
والتوجه إلى الطبيعة، نقرؤه كما لو كان هدياً نحو النزوع إلى الرومانسية، فيما قاله الشاعر جان جاك روسو وهو يطمئن للطبيعة (باعتبارها مكاناً يخلو من الظلم والقوانين الجائرة والتفاوت الطبقي). إشارة كهذه ربما تضيء بنسبة ما على مفهوم الرومانسية كحركة فنية واسعة. إن الشاعر فرنسيس بونج -موضوع مقالتنا- هو أحد شعراء الرومانسية الداعين إلى العودة إليها، وهو الذي تقلّب في حياته بين مختلف الأيديولوجيات والحركات الفكرية والسياسة في فرنسا، لكنه بقي (وطنياً صلباً) -كما تقول الأدبيات الفرنسية.
ليس من باب الترف القول إن من لم يقرأ الأدب الفرنسي، خصوصاً الشعر والرواية، مروراً بأدبيات الحركات الفنية والنظريات والرؤى، أقله منذ نشأتها في عصر النهضة، خصوصاً الوسيط (ق 14) الذي مثل قمته، وما بعد ذلك؛ فقد فاته الكثير المهم، القمين بالاطلاع عليه والإفادة منه ثقافياً ومعرفياً، ليثري المُهتم مشروعاته الأدبية والفكرية والفلسفية.
إن قصيدة المَرْج لفرنسيس بونج، تعدّ من النصوص الشعرية الملحميّة، ويبرز فيها جانب يستهدف اللغة على نحو خاص، فهي تضيء على تجليات لا محدودة، بينها ما يفتح كوة على مفهوم الانحياز للطبيعة بكائناتها، ومنحها حبنا، على اعتبار أن (حبنا للأشياء يعني أننا نعيد معرفتها) - بحسب بونج ذاته. من هنا يمكن تخيل طرق الاتصال عبر تلك الأشياء، وما يمكن للكتابة فيها أو حولها أن تُشرعه للآفاق في لا محدوديتها.
لعلها المرة الأولى التي يُعثر فيها على ورشة لقصيدة، يفتحها الشاعر بونج، ويطلق عليها اسم (ورشة المرج). ما يعني أن القصيدة التي استعد لملاقاة (لقائها) احتاجت منه إلى ورشة، واستوجبت الكثير من التخطيط والجلوس والانتظار والتأمل، فقد تم العثور أيضاً على تخطيطات بالقلم الأسود (أشبه ما تكون بالخريطة) لمربع المرج، ذلك السهل الأخضر الذي كان يتأمله مرة عبر النافذة، ومرة يقصده ليجوبه تهيئة لكتابة قصيدته.
يرى الشاعر بونج أن ما يهمه في المرج الأخضر هو أفقيته (المرج انبساط أفقيٌ محدّد بصرامة). ومن هنا نجد التبرير لرسمه (شكلاً مربعاً) للمرج في خارطة عُدّت استباقية. المرج بالنسبة لبونج: (يجلب الراحة، ربما راحة أبدية؛ إذ لا يُقصد المرج إلا للاستلقاء، حتى عند المبارزة، تصلانه واقفين، ثم تشابكان سيفيكما المائلين حتى تبلغا، في النهاية، الأفقية الأكمل).
(المرج) القصيدة تنتمي إلى مفهوم (المنظر) في الشعر. وكما في سياقات أخرى، ووفقاً لما يقوله الناقد ميشيل كولو؛ فإن المرج: (هو مكان مشاع يخصنا جميعاً، وفضاء حرية ممنوح لحساسية كل منا وإبداعه. وبهذا تتهيأ أرضية مشتركة تمكّن الفرد من التواصل الحقيقي مع الجماعة من دون التخلّي عن ذاته، وفيها تكمنُ صيرورة الحضارة بصفتها نتاجاً جماعياً).
تجدر الإشارة هنا إلى أن قصيدة المرج لبونج جاءت بعد وفاة والده عام 1923، إذ كشفت له حادثة الموت تلك عن (هوة أراد طمرها بأي ثمن كان، هوة ألقت طويلاً بأثرها عل تصوّره للصيرورة ونشأة الكون). نقتطف هنا من أجواء الفترة ذاتها التي أعقبت حادثة الموت، من قصيدة له بعنوان الحصاة: (لا يدركها العقل إلا ضعيفة ومبدّدة بين قفزات الاحتضار الثقيلة. تصحو لعمادة بطلٍ بضخامة العالم، وتكتشف المأزق المرعب لفراش الموت).
في سياق الحديث عن قصيدة المرج التي تتحدث عن الطبيعة في عملية أركولوجيّة غير مسبوقة، قام بها الشاعر الفرنسي بونج؛ ثمة موضوع نذكره للأهمية ونرجئ التعمق فيه الآن، آملاً أن ثمة من يلتقطه ويوفيه حقه من البحث. محوره الاشتغال على دراسة مقارنة حول (المنظر) وأهميته في الشعر الفرنسي والعربي، للوقوف على عاملين: الأول الفارق في مستوى الجهود العملية المبذولة من لدن الشاعرين، الفرنسي والعربي. والثاني الوقوف على مستوى الوعي والمعرفة لدى الاثنين، لا سيما أنهما على ضفتي المتوسط، وتظلهما حضارة واحدة.
قصيدة المرج للشاعر فرنسيس بونج، كُتبت بين عامي 1960 - 1964، ونشرت في العام 1967. ومقتطفات القصيدة -المتفرقة- التي ننشرها تالياً هي من ترجمة الدكتورة ندى عيسى (تخصّص السيمياء الأدبية).
***
في بعض الأحيان
لدى استيقاظنا
تقدّم لنا الطبيعة ما تهيّأنا له بالتحديد
فيعلو المديح على الفور في أفواهنا
نخالنا في الجنّة
***
هذا ما كان عليه المَرج الذي أريد الكلام عليه
والذي سيشكّل اليوم موضوع حديثي
***
أحياناً تكون طبيعتنا
وأقصد القول بكلمةٍ: الطبيعةُ على كوكبنا
وما نكون كلّ يوم لدى استيقاظنا
أحياناً تكون طبيعتنا قد أعدّتنا لمَرجٍ
أعدّت لنا مَرجاً.
***
المَرجُ الذي هو في آنٍ واحدٍ تراكم الأيام الماضية ومنشأ اليوم الحاضر.
***
فلنعدّ إذَن الصفحة التي تستطيع اليوم أن تولد فيها حقيقةٌ تكون خضراء
***
مع عودة الشمس
يميل الماء إلى التبخّر
هو الذي يتشرّبه من جديد
المرمد الكونيّ يريد بدوره الفناء
تحت تأثير الحرّ المتصاعد
الماء يتراجع
يتبخّر
لكنه حينئذ
يجرجر معه نحو السماء هذه البقايا العضويّة
فيُنعش المرمدَ الكونيّ: العشب والحياة
ينبثقان من جديد وهوَ ذا (المَرج)
يعبّر العشب إذَن عن الانبعاث الكونيّ في أكثر الصيغ بدائيّة
***
قريباً من التخلّي
مستلقياً على هذه المَرج
وشبه عازم على عدم التزحزح منه
على التزام الصمت
على الفناء هنا فوقه
حتى أوضع تحته
ولا يكون لي أن أقوم بأيّ حركة..
الإدراك المفاجئ لاستقامة العشب
التمرّد المتواصل للخُضرة
يُحيينا
***
ذلك أنّ مكان اللّغو الطويل
قد يصير مكان القرار..
ها هي إذَن على هذا المَرج فرصة سانحة
للانتهاء من الأمر قبل الأوان
***
فهي (المروج) تولد بشكل مختلف
إنها تنبجس من الصفحة
وتستلزم فضاء الكتابة
فضاء الخطّ
واستغراق الزمن الضروريّ للكلام
الضروريّ للتعبير..
الطبيعة تذكّرنا بهذا على الفور
في وجه ضلالات الشعر
لن يعود من إيهام
أنا أؤثر الشرح على الشّعر
والحذف البلاغيّ على الإيهام