مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

رؤية جديدة للإقواء عند شعراء الجاهلية

قال الخليل بن أحمد في تعريف الإقواء: (هو ما جاء من المرفوع في الشعر والمخفوض في قافية واحدة، وسُمِّيَ إقواء لتَخالُفِه، لأن العرب تقول: أقوى الفاتل، إذا جاءت قوة من الحبل تُخالف سائر القُوى).
وقال صاحب الطبقات وهو يتحدث عن شعراء الطبقة الأولى: (ولم يقوِ من هذه الطبقة ولا من أشباههم إلا النابغة (ت: 604م) في بيتين، قوله:
مِن آلِ ميَّةَ رائحٌ أو مغتدِ
عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ مزوَّدِ
زعَمَ البوارحُ أنَّ رِحلَتَنا غداً
وبذاك خبَّرنا الغدافُ الأسودُ
وقوله:
سقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه
فتناولتْه واتَّقتنا باليدِ
بمخضَّبٍ رخصٍ كأنَّ بنانَه
عنمٌ يكاد من اللطافةِ يُعقَدُ
فقدم المدينة، فعِيب ذلك عليه، فلم يأبه لهما حتى أسمعوه إيَّاه في غناء، وأهل القرى ألطف نظراً من أهل البدو، وكانوا يكتبون لجوارهم أهل الكتاب، فقالوا للجارية: إذا صرتِ إلى القافية فرتِّلي، فلما قالت: الغدافُ الأسودُ، ويعقدُ، وباليدِ، علم وانتبه، فلم يعد فيه، وقال: قدمت الحجاز وفي شعري ضَعة، ورحلت عنها وأنا أشعر الناس).
وفي (الشعر والشعراء) أن بشر بن أبي خازم (ت: 598هـ) أيضاً كان يقْوي، فقال له أخوه سوادة: إنك تقوي، قال: وما الإقواء؟ قال: قولك:
ألَمْ ترَ أنَّ طُولَ الدَّهر يُسلِي
ويُنسِي مثلما نُسِيَتْ جذامُ
ثم قلتَ:
وكانوا قومَنا فبغَوا علينا
فسُقناهم إلى البلدِ الشَّآمِ
فلم يعد للإقواء.
ومَن لديه علمٌ بصناعة الشعر يعلم أن هذا الإقواء الوارد عند النابغة وعند بِشرٍ من قبيل السهو الذي يعتري الشاعر حين يفصل بشيءٍ من الوقت بين أبيات القصيدة الواحدة، أو يشرد ذهنه في أثناء النظم، وعلى أية حالٍ فقد استدركا إقواءهما حين تم تنبيههما عليه.
لكن ثمة أبيات التبست على الرواة، فرُوِيت بوجهٍ يدرجها تحت الإقواء، وعند التأمل يبدو أنه خطأ في الرواية، ولعل أسباب ذلك اللبس هي عينُها أسباب اختلاف الروايات، وكلها ترجع إلى تأخر عصر التدوين عند العرب، وكذلك تأخُّر وضع حركات الضبط، ومن تلك الأبيات المنسوبة ظلماً إلى الإقواء بيت امرئ القيس في قصيدته التي مطلعها:
لِمَنِ الدِّيارُ غَشِيتُها بِسُحامِ
فَعمايَتَيْنِ فَهَضْبِ ذي أقدامِ
والبيت الشاهد هو كما تناقلته الرواة:
جالتْ لتَصرَعَني فقلتُ لها اقصِري
إنِّي امرؤٌ صَرعِي عليكِ حَرامُ
فقد رُوِيَ هذا البيت بضمِّ الرويِّ ثم علقوا عليه بعيبِ الإقواء، غير أني أرى أنه عند التأمل يتضح أن الصواب هو (حرامي) بإضافة ضمير الياء، وحينئذ يكون المعنى: إنَّ صرعي هو حرامي الذي حرمته عليكِ، وعلى ذلك فلا إقواء في البيت.
وكذلك بيت الحارث بن حلزة (ت: 570م) في معلقته التي مطلعها:
آذنَتْنا بِبَيْنِها أسماءُ
رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ
والبيت الشاهد هو كما تناقلته الرواة:
فملَكْنا بذلكَ النَّاسَ حتى
مَلَكَ المنذرُ بنُ ماءِ السَّماءِ
فقد رُوِيَ الشطر الثاني بتخفيف اللام من (ملك) وكسر الهمزة من (السماء)، وقالوا: إن البيت به إقواء، وهو بهذه الرواية إقواء كما قالوا، لكن لا أظن أن الحارث قصد ذلك في بيته، بل الصواب أنه بتضعيف اللام من (مَلَّكَ)، ونصْب (المنذر) على المفعولية، وأما قوله (السماء) فليس المراد به في البيت تمام اسم أم المنذر (ماء السماء)، بل المراد به السماء التي نعرفها، وهي في البيت كناية عن إرادة الله تعالى، والمعنى: فكنَّا ملوكاً على الناس، حتى قضتِ السماء بمُلْك المنذر ابن ماء (وحذف تمام الاسم وهو (السماء) لضبط الوزن)، وأما (السماء) المذكورة في البيت فهي كما تم توضيحه، لكن الذي جعل الأمر يلتبس على الرواة في هذا البيت هو الجناس بين لفظة (السماء) تتمَّة اسم والدة المنذر، وبين لفظة (السماء) المقصودة في البيت، وهي السماء التي نعرفها، فلما وقع ذلك اللبس عندهم استحال ضبطها بغير الكسر، لأنها مضافٌ إليه مجرور، فضبطوها بهذا الحكم وأحالوا البيت إلى الإقواء.
وللخلاص من اللبس في مثل تلك الحالات، يجب قراءة النص -أيّاً كان نوعه- قراءة فنية صحيحة، أي: قراءته وفق مقوِّمات الفن الذي يندرج تحته، مع مراعاة أقرب القراءات إلى الصحة، ثم يتم بعدها التعامل النقدي وإحالة ما يظهر من عيوب إلى أبوابها.

ذو صلة