مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الغزل بالمؤنّث.. مظهر نِسْويّ منسيّ

في شعر الرجال ضربٌ شائعٌ شيوعاً عجيباً، أعني (الغزل بالمذكر)، وهو نمطٌ نشأ في ظلال الترف والحضارة، وأعانت على انتشاره أسبابٌ اجتماعية وثقافية.
وأنا لا أنظرُ إليه بوصفه انحرافاً خلُقيّاً عند كل الشعراء، بل هو عند الكثرة الكاثرة منهم تعبيرٌ عن حالة ثقافية، ومزاجٍ عامّ، لم يكن يرى في ذلك الضرب من الشعر سوى أنه مشاركة أدبية محضة في فنّ قوليّ شائع، فلم يكن غالبُه ناشئاً عن شعورٍ قلبي، أو حالة وجدانية، أو تلبّسٍ بالفاحشة.
ويشهدُ لهذا شيوعُه في طبقاتِ العلماء والفقهاء وعلية الناس ممن يتقذّرون الوقوعَ في حقيقته، ويشهدُ له أيضاً ما صرّح به بعض الشعراء من أنهم يقولون في بعض الأغراض إظهاراً للقدرة الفنية، وامتحاناً للقريحة، ومشاركةً في أنماط القول فحسب، كابن الوردي الذي أثبت في مقدمة ديوانه ما يوشك أن يُعَدّ قانوناً عند جمهرة من الشعراء والمترسّلين، إذْ قال: (وقد يقف الناظر في مجموعي هذا على وصف عِذار الحبيب وخدّه، ونعت رِدفه وقدّه.. فيظنُّ لذلك بي الظنون غافلاً عن قوله تعالى: (وَأَنَّهُمْ يَقُوْلُونَ مَا لَا يَفْعَلونَ)، فإني إنما قلتُ ذلكَ على وجه امتحان القريحة، ومحبةً في المعاني المبتكرة، واللُّمَع المليحة). وصرّح بالتوبة عن هذا الضرب من الشعر بأخَرة، فقال:
أستغفر اللهَ من شعرٍ تقدّم لي
في المُرْدِ قصدي به ترويجُ أشعاري
ويشهدُ لهذا أيضاً غزلهم بغلمانٍ مشوّهي الخِلَق، ومن ذلك أبياتٌ لأبي حيان الأندلسي، الذي برع في إخفاء فتور عاطفته وراء بريق معانيه المبتكرة، وما كان قصدُه -على رأي بعضهم- سوى تطييب خواطر ذوي العاهات، وإثبات مقدرته على الغزل، مجاراةً لأهل الزمان، وإلا فكيف نسوّغُ انصرافه عن التغزُّل بالغلمان الأصحّاء؟
والمهمّ هنا أننا نجد ما يقابله في غزل النساء، وهو (الغزلُ بالمؤنث). فهل كان هذا الضربُ المحدَثُ مغالبةً للرجال؟ أهو (ردُّ فعل) على غزل الشعراء بالغلمان؟ أو هو كذلك لونٌ ترَفيٌّ أوجدتْه حياة القصور والفراغ واللهو المستحكِم؟ وهل بلغ أن يصبح حالة ثقافية كالذي وقع في الغزل بالمذكّر؟
وقد وصفتُه بالمُحدَث إلماحاً إلى نجومِه في زمن متأخر، وإن كان في الشعر القديم ما يمكنُ أن يُضاف إليه، ففي بيتين لأم الورد العجلانية وصفٌ لفتاة، ولا أدري أهو محض وصف لابنة مثلاً، أو هو وصف استحسان يُميله إلى الغزل، فهي تقول:
جاريةٌ كالغصنِ غصنِ البانِ
بيضاءُ من مصائدِ الشيطان
إن هؤلاء اللواتي نحونَ إلى (الغزل بالمؤنث) يذكرنَ محاسن النساء، ويتشوّقنَ إلى وصالهنّ، وإنه لمن طريف الظواهر المرصودة في غزلهنّ.
وقد قيل: إن بعضهنّ جنحنَ إلى الرمز عن اسم الرجل باسم امرأة، لا أنهن يتغزلن بالمرأة، على نحو قول زهراء الأعرابية:
وَجْدي بجُمْلٍ على أني أجَمجِمُه
وجدُ السقيمِ بِبُرءٍ بعد إدنافِ
أو وجْدُ ثكلى أصاب الموتُ واحدَها
أو وجْدُ منشعبٍ من بين أُلّافِ
فـ(جُمْلٌ) كناية عن محبوبها إسحاق الموصلي، والتكنية عنه باسم امرأةٍ مُشكِلٌ، من جهة أنها هربتْ من مخافةٍ إلى مخافة، فهل كان مجتمعها يقبلُ أن تشبِّبَ امرأةٌ بامرأةٍ؟ وهَبْ ذلك صحّ، فإن مجتمع هذه القائلة غير المجتمع المترف المتأخر الذي وجدنا فيه أن ولّادة عَلِقتْ بمهجة القرطبية، وتغزّلت بها، وقرأنا فيه لحمدونة الأندلسية شعراً تصف فيه حُسْنَ صبيّة:
ومن بين الظباءِ مهاةُ رملٍ
تبدّتْ لي وقد ملكتْ قيادي
فإن هاتين عاشتا في بيئة مترفة متحضّرة لاهية، وربما قُبل منهنّ ذلك لأنه مظهر ظرف، ولأنهنّ -على ما أرجّح- يحاولنَ ابتكار غرض مضادّ للغزل بالمذكّر.
ثم إن من العجيب في غزل النساء -وهو ذو صلة بهذه الظاهرة- أن نجد امرأة عبّاسيّة ذات شأنٍ ومنزلة تنشِئ الشعر الغزلي، وهي عُلَيّة بنت المهدي، والأعجبُ أنها تتغزّل بخادميْها، وتكنّي عن اسميهما في أخبار كثيرة. ولا شكّ في أن طبيعة الحياة التي كانت تعيش فيها عُلَيّة -وهي بنت الخليفة وأخت الخليفة- أوجدتْ عندها هذا النمط من الغزل الجانح إلى الرمز المتفلّت من نُظُم القصور، فضلاً على أنه متمرّدٌ على الأعراف التي تجعل المرأةَ -على ما سلف- مطلوبةً لا طالبةً. ومن شعرها الذي تصرّفت فيه بالكناية عن اسم المحبوب:
وجَدَ الفؤادُ بزينبا
وجْداً شديداً متعبا
وجعلتُ زينبَ سُترةً
وأتيتُ أمراً معجِبا
فـ(زينب) هنا كناية عن اسم المعشوق (رشأ)، ولكن الأسئلة تُنسَل من النص: من المخاطَبُ بهذا الشعر؟ أهو رشأ نفسه؟ فحينئذ يصبح البيت الثاني عذراً لترك ذكر اسمه، واحتجاجاً بالتخوّف من العاقبة. أم المخاطَب متلقٍّ جاهلٌ بالأمر ويُخشى أن يتكشّف له؟ فإن كان هو هذا فكيف تصرّح في البيت الثاني بكشف ما سترتْه؟ ثم ألم تفرَّ عُلَيّة من مَخُوفٍ إلى مَخُوفٍ آخر؟ أيُقبَل منها أن تتغزّل بامرأة؟ وقد قيل: إن قولها (زينب سترة) صار مثلاً سائراً، حتى إنه يُقال في كلّ شيء يُكنى به: هو (زينب سترة)، فهل تحقق لها بهذا كتمانُ ما سعت إلى كتمانِه؟ ثم إن جمهرة من الشعر المنسوب إليها مندرج في (الغزل بالمؤنث)، ومنه قولها:
لكنّ حبَّكِ أبلاني وعذّبني
وأنت في راحةٍ طوباكِ طوباكِ
وبيّن -إن صحّت نسبته إليها- أنها تصدر عن حبّ وولع شديدين، وتزداد تلك المشاعر في قولها:
أليست سُليمى تحت سقفٍ يُكِنُّها
وإياي؟ هذا في الهوى ليَ نافعُ
ومثله قولها:
أوقعتِ قلبيَ في الهوى
ونجوتِ منه سالمهْ
وكثير من مقطّعاتها يُقرأ فيها الخطاب إلى أنثى، ولكن هل كلّ ما قالته يمكن أن تُقرأ فيه ضمائر المؤنث؟ لا، بل ثمّ شعر ظاهره التغزل برجل، كقولها:
يا ذا الذي أكتمُ حُبّيهِ
ولستُ من خوفٍ أسمّيهِ
لم يدرِ ما بي من هواه ولم
يعلم بما قاسيتُه فيه
وقولها:
قل لذي الطرّة والأصـ
داغِ والوجهِ المليحِ
ولمن أشعل نارَ الـ
حبّ في قلبٍ قريحِ
ما صحيحٌ عملت عيـ
ناكَ فيه بصحيحِ
وقلت: ظاهره التغزّل برجل، ولم أقطع، لأن من الوارد أن تكون مريدةً التغزل بامرأة ولكنها عبّرت عنها بضمير المذكّر، هرباً من التصريح، أو إعادةً للضمير على تقدير إرادة (شخص) أو (إنسان).
إنها أسئلة تنطرح بين يدي نصوصها التي كنّت فيها عن المعشوقين، وربما لا أجد لها إجابات مقنعة. غير أني أشير إلى أن بعض الدارسين رأى في غزلها وسيلة تسلية عن بُعد زوجها عنها، وأنها كانت تجد بعض السلوى، وتحقق إرضاء النزعة الأنثوية في تلك الغراميات الصغيرة، وأن في بعض غزلها تعبيراً عن اليأس من الوصول إلى الحبيب.
ومن قَبيلِها خديجةُ بنت الخليفة المأمون التي أُثِر لها شعرٌ غزليٌّ تصف فيه جسدَ محبوبها (محبوبتها)، مثلما يصف الغزِلون أجسادَ النساء، فهي تقول:
تاللهِ قولوا (لي) لمن ذا الرَّشا
المُثقَلُ الرِّدفِ الهَضيمُ الحشا؟
إن كل ما سلف صريحٌ في اتجاه بعض الشعر النسْويّ إلى الغزل (بالمؤنّث). وهو -على ما سلف- ضربٌ من التحوّل الجريء، بل هو أعتى ما بلغنا من غزلهنّ، وإنه -على علّاته وعلى اضطراب نسبته- يكشف ضرباً من التطوّر في شعر النساء.
لقد اجترحت أولئك النساء المتغزّلاتِ شعريّة مضادّةً للشعريّة الغزلية الظاهرة في شعر الرجال، فغالبنَهم بغزلٍ مضادٍّ. تغزّلَ الرجال بالمذكّر، فتغزّلن بالمؤنّث. صار الغزل بالمذكّر حالةً ثقافية عامّة مقبولةً مَرْضيّةً وإن كانت مرَضيّة، فأردنَ أن يواجهنَها بإيجاد حالةٍ ثقافية مضادّة، ولكنهن -على ما بدا- أخفقن، فلم يَعْدُ غزلُهنّ بالمؤنّث أن يصوّرَ أحوالاً فرديّة، لا حالة عامّة. وقد اختصر سيف الدين المُشِدّ (ت656هـ) واقع التنازع بين الرجال والنساء وميل بعضهم إلى الجنس نفسه فقال:
بطل التناسلُ في الورى
من غير شكٍّ وامتراءْ
فإذا الرجالُ مع الرجالِ
كما النساءُ مع النساءْ

ذو صلة