يعتقد الكثير منا أن (البداوة) هي مرحلة تخلف وبدائية من مراحل الوجود الإنساني، بينما هي في الحقيقة المرحلة الانتقالية والمغذية للمدنية. البداوة ليست خيمة أو بيتاً مؤقتاً وإبلاً وغنماً. البداوة ثقافة وأعراف وقيم ونظم اجتماعية وتحالفات إنسانية بنيت عليها الحضارة. وإذا ما عدنا إلى المراحل المتتابعة لتشكل الوجود الإنساني وطبيعته فإنه يمكننا تقسيمها إلى عدة مراحل: (مرحلة الصيد - مرحلة الرعي واستئناس الحيوانات - المرحلة الزراعية المنظمة - مرحلة البداوة).
مع الأخذ بعين الاعتبار أن المرحلتين الأخيرتين تتوازيان زمانياً ومكانياً إلى حد بعيد، بل إن جميع المراحل يصعب الفصل بينها بشكل حاسم إلا من باب التقسيم للشرح والتوضيح. فمرحلة الصيد التي هي عند الكثرة الغالبة اليوم ضرب من اللهو كما ذكر (ول ديورنت) في قصة الحضارة، لم تكن كذلك في تلك الحقبة، بل كانت قضية تتعلق بها الحياة والموت، لأن الصيد لم يكن سبيلاً إلى طلب القوت فقط بل كان كذلك مسألة حرب وجود، فالحيوان إذا جاع هاجم الإنسان وقلب معادلة البقاء على وجوده البشري. فكان لزاماً أن تكون العلاقة علاقة بقاء أو فناء، ومن أجل ذلك سخر لنفسه وطوع بعض مواد البيئة المحيطة به، فصنع منها الحراب والرماح والأسلحة التي تمكنه من السيطرة على الحيوانات المفترسة من حوله، واصطياد فرائسه.
ثم جاءت مرحلة استئناس الحيوانات الأليفة وامتلاك ما يمكنه منها تدريجياً إلى أن شكلت قطعاناً يمكنه الاستفادة منها كوسائل نقل، وموارد غذائية، ومواد خام من صوف وغيره يطور بها من شكل حياته ومقومات بقائه، مستفيداً من مراقبته للطبيعة من حوله، فبملاحظته لطريقة تخزين الطيور للحبوب في الشجر، بدأ في محاكاتها في ذلك بما لا يعيقه عن الحركة والتنقل، وبملاحظة غيرها من الحيوانات والطيور بدأ شيئاً فشيئاً يغير من أساليب حياته وطرق تعامله مع الطبيعة من حوله. واستمر الإنسان في التطور ككائن اجتماعي متدبر ومفكر، فبدأ في الاستقرار في بعض الأماكن التي وجدها مناسبة للإقامة والزراعة في الوقت الذي واصلت فيه مجموعات بشرية أخرى حالة التنقل والترحال، لكن بعضها انتظم في مجموعات قرابية ممتدة من إخوة وأبناء عمومة وأقارب، ومن هذه المجموعات من دخل في تحالفات مع مجموعات أخرى كنوع من الاستئناس والقوة، فنظمت معيشتها متأثرة ببعضها البعض في معارف وطرق عيش مكتسبة فيما بينها، وبنت أعرافها وقوانينها المنظمة لعلاقاتها والتزمت بمبدأ المرجعية الواحدة لمن تختاره من أفرادها أو من يستطيع أن يصل إلى السيادة من خلال مقوماته وإمكانياته الخاصة أو من خلال قوة جماعته الرئيسة، وهذه المجموعات سواء قبل دخولها مع بعضها في تحالفات أو بعد ذلك تسمى بالجماعات البدوية أو البدو الرحل.
ثم أخذت هذه الجماعات تغير من أساليب حياتها وطرق معاشها. فعلى سبيل المثال لم يعد نظام الوجبة الواحدة مرغوباً، واستبدلته بنظام الوجبات الثلاث كنوع من التطور وغاية الرقي في مفاهيم تناول الطعام وتنظيم الأوقات، فالأقوام الهمجية كانت حسب رأي (ديورانت) تتخم نفسها بالطعام دفعة واحدة أو تمسك عن الطعام وتحكم على من ادخر الطعام بقلة الذوق أو ضعف المراس. ومن ثم انتقل بهم الحال ومراحل التطور إلى حياة المدنية، إما بانتقال بعضهم إلى المدن، أو بتحولهم الاجتماعي الداخلي في بيئتهم الجغرافية من حياة البداوة إلى حياة المدنية، بسبب وصولهم لمرحلة من الاكتفاء الذاتي ووصولهم إلى ما فوق الحاجة من الغنى والرفاه، فيدعوهم ذلك إلى السكون والدعة، واختطاط المدن والأمصار للتحضر، كما يرى (ابن خلدون) أو بفعل العامل الاقتصادي وفق رأي (كارل ماركس) في طبيعة تحول المجتمعات في تفاعل اجتماعي لا يخلو من بعض الصراعات الداخلية بينهم البين أو بينهم من جهة وبين من سبقوهم إلى التحضر والمدنية من سكان القرى والمدن الذين يتماسون معهم خلال مراحل هذا التحول.
أما عن أسباب تأخر بعض الأفراد أو الجماعات من العرب خاصة عن اللحاق بركب المدنية فلأنهم كانوا يرون حسب ما ذكره (المسعودي)، أن الأرض تمرض كما تمرض الأجسام وتلحقها الآفات، والواجب تخير المواضع بحسب أحوالها من الصلاح، وأن الأبنية والتحويط حصر عن التصرف في الأرض، وتقييد الهمم، وحبس لغرائز النفس وهمتها عن المسابقة إلى الشرف والعلو. كما أنها تفسد الهواء أو تمنع اتساع حركته وتمحق بركة الغذاء. بالإضافة لأسباب أخرى مختلفة.
ومن خلال هذا العرض السريع والمقتضب يظهر لنا جلياً أن البداوة مرحلة قريبة من مرحلة المدنية، وأنها رافدها البشري والاقتصادي وامتدادها الاجتماعي، وأن البداوة مفهوم أشمل وأوسع من صورتها المقرونة في بعض التصورات بخيمة وإبل وأغنام مجردة من كل بعد ثقافي واجتماعي ومعرفي.