مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

موسيقى اللغة الإنجليزية

في المقال الأخير الذي يتأمل فيه الناقد نيكولاس باربر عملاً ثقافياً يجلب البهجة للناس، حيث يشيد باربر بسعادة بالأبطال الخياليين في الروايات الهزلية بداية من بيلهام غرينفيل وودهاوس PG Wodehouse.
يقول باربر: (إذا كنا نتحدث عن الثقافة التي تجعل الناس سعداء، فعلينا أن نبدأ بأعمال PG Wodehouse، ولذلك سببان، الأول أن إسعاد الناس كان طموح وودهاوس Wodehouse المهيمن. والسبب الثاني هو أنه كان أفضل من كتب الروايات الهزلية عبر التاريخ).
قد يرغب بعض المؤلفين في كشف مظالم العالم، أو مشاركتنا رؤيتهم النفسية. وودهوس، بحسب كلماته، فضل نشر (العذوبة والضياء). مجرد إلقاء نظرة على تلك العناوين يكشف ذلك: لا شيء جاد، الغاز الضاحك، المرح في الصباح.
أراد وودهوس Wodehouse أن يحلق بنا بعيداً عن همومنا مع كل نكتة متلألئة، وكل شخصية حسنة النية وساذجة، وكل صراع هزلي مع البجع الغاضب وحيوانات بكين الأليفة، وكل وصف خيالي لنزهة حول أراضي منزل صديق فخم أو صوت كورال الأولاد الذين يمرحون على بعد مئات الأمتار في حفل صيفي صاخب.
كتب وودهوس Wodehouse في سيرته الذاتية، في سن ما فوق السبعين عاماً؛ عن كتابته ووصفها بأنها فكاهية ساخرة، واستشهد بأقوال شخصين في التلمود حصلا على مكانتهما في الجنة، حيث قالا: (نحن صانعو المرح، عندما نرى شخصاً محبطاً نشجعه).
أتت مقدمتي الخاصة لصانع المرح في نموذجه الأمثل في شخصيتي (جيفيس ووستر) Jeeves and Wooster، المسلسل التلفزيوني المقتبس من أكثر قصصه شهرة والتي تدور حول توف toff الشاب وخادمه الهادئ. لعب هيو لوري دور البطولة، حيث قام بدور بيرتي ووستر، العازب الثري الذي بدا أنه لا يهتم بأي شيء سوى الطعام والشراب والجوارب العصرية، ولكنه كان دائماً يقدم المساعدة للعديد من زملائه القدامى الذين كانوا أكثر حماقة منه. شارك ستيفن فراي في دور جيفس، الذي كان يمتلك عقلاً يفتقر إليه سيده الشاب. أذكر أنني شاهدت المسلسل كطالب يعاني من نقص التغذية، ويعمل فوق طاقته، وتُوتِّره المقالات والامتحانات، كنت دائماً أشعر بالارتياح عندما أتمكن من الذهاب إلى غرفة التلفزيون بالكلية (نعم، كان ذلك منذ وقت طويل) من أجل هروبي الأسبوعي إلى أرض العجائب الفنية في عصر موسيقى الجاز- ولوحات الآرت ديكو ونوادي السادة التي تقدم كوكتيلات تساعد على (ترميم الأنسجة) ووجبات إفطار بوفيه تقدم على أطباق فضية.
صانع الجمل المثالية
بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، أعيد حالياً، مع ابنتي، مشاهدة الحلقات على أقراص DVD، ولا يزال مسلسل Jeeves وWooster بلا عيوب إلى حد كبير. عندما أجريت مقابلة مع لوري الذي قام بدور جيفيس في عام 2000، كنت قد أعدت مشاهدة المسلسل بشغف كبير، واستشهدت بما قيل، في ذلك الوقت، بتعبير وودهوس Wodehouse المفضل لديه: (لقد تحطم سكون ونعاس فترة ما بعد الظهر بسبب توتري مثل سقوط جلبرت شيسترتون GK Chesterton على علبة من الصفيح).
هناك الكثير من السطور الأخرى التي كان من الممكن أن يقولها. لماذا هذا الاقتباس:
(ليس من الصعب أبداً التمييز بين أسكتلندي لديه مظلمة وشعاع من أشعة الشمس)؟
أو هذا:
(قليلاً ما يحدث أن تترك العمة داليا مشاعرها الغاضبة ترتفع، ولكن عندما تفعل ذلك، تصبح كمن يسحبها رجال أقوياء تسلقوا الأشجار)؟
أو هذا:
(مثل الكثير من المواطنين الأمريكيين، تزوج شاباً واستمر في الزواج، وانتقل من شقراء إلى شقراء مثل الشامواه (الظبية) في جبال الألب تقفز من صخرة إلى صخرة)؟
يمكننا أن نستمر في سرد مثل هذه الاقتباسات طوال اليوم: نشر وودهوس في حياته 96 كتاباً، وكان يصوغ كتاباً آخر عندما توفي عام 1975 عن عمر يناهز 93 عاماً. ما أثبتته هذه المقتطفات هو مدى تعلقنا بتلك الشخصيات الأرستقراطية ومغامراتها المعقدة. وما جعل وودهوس Wodehouse مميزاً للغاية هو شغفه بالنثر: العبارات التي تبدو وكأنها تنتشر دوماً دون عناء، وقد نجح في ذلك لأنه، كما قال: (يكتب كل جملة عشر مرات).
نندهش بقوة ونحن نقرأ جمل وودهوس، من طريقة صياغتها الدقيقة والرائعة، ونتعجب من طريقته في الوصول إلى جملة مثالية، لنسعد بكيفية تأرجحها بين اللغة الفصيحة والعامية، ونقرأ سباقاً بين المستويين اللغويين، بين البساطة والمبالغة، بين الفكاهة اللطيفة والذكاء اللاذع. وصفه الروائي الإنجليزي دوجلاس آدامز، مؤلف كتاب (دليل المسافر إلى المجرة) The Hitchhikers Guide to the Galaxy، قائلاً: (ما يكتبه وودهوس Wodehouse هو موسيقى الكلمة الخالصة). (لا يهم أحد أنه يكتب اختلافات لا حصر لها حول موضوع اختطاف الخنازير، والخدم النبلاء، والخداع السخيف. إنه أعظم موسيقي للغة الإنجليزية الذي يستكشف صياغات مختلفة من المفردات المألوفة، وهو ما يفعله الموسيقيون طوال اليوم).
كان بإمكانه بالتأكيد كتابة كتب أكثر قتامة وأكثر بحثاً عن النفس، لولا أنه كان يتمتع بروح المرح والدعابة. كان لديه فيض من الحكايات الخام التي يمكن الاعتماد عليها.
وُلِد بيلهام جرينفيل وودهاوس عام 1881. نادراً ما كان والداه الاستعماريان الفيكتوريان يعيشان معه في نفس الدولة. وحسب كاتب سيرته الذاتية (Wodehouse: A Life)، روبرت مكرم Robert McCrum. حيث يقول: (إجمالاً، رأى وودهوس Wodehouse والديه لمدة ستة أشهر، بالكاد بين عمر الثالثة والخامسة عشر، وذلك يعتبر بكل المقاييس حرماناً عاطفياً محطماً) ومع ذلك، استمتع بأيام الدراسة في كلية دولويتش، لكنه تعرض لصدمة أخرى، حيث أعلن والده أنه يتعين عليه الذهاب مباشرة إلى وظيفة في أحد البنوك بدلاً من إكمال دراسته.
خيبة الأمل لم تمنعه، كان يعرف دائماً أنه يريد أن يكون كاتباً، ولذا فقد باع القصص القصيرة بمعدل يفوق البشر حتى يتمكن من كسب عيشه منها. سرعان ما أصدر مختارات لقصص وروايات، بعضها ضم (جيفس ووستر)، وبعض المختارات تضم (سميث الحكيم) the canny Psmith أو (السيد مولينير الثرثار) the garrulous Mr Mulline، وبعضها يقع في قلعة بلاندينجز Blandings Castle، وبعض القصص الأخرى نشرت في جولف مارفيس باي والنادي الريفي Marvis Bay Golf and Country Club. إلى جانب ذلك، كانت هناك مسرحيات برودواي الموسيقية وسيناريوهات هوليوود، إضافة لذلك زواجه الطويل والمستقر.
لكن بينما كانت حياته المهنية والشخصية سعيدة، فقد تضمنت حلقات كان من الممكن أن تتحول إلى أدب كئيب. خلال الحرب العالمية الثانية، توفيت ابنة زوجته المحبوبة ليونورا بشكل غير متوقع، عن عمر يناهز 40 عاماً، بعد عملية جراحية بسيطة، وتم القبض على Wodehouse نفسه في شمال فرنسا، حيث كان يعيش في ذلك الوقت، وتم إرساله إلى معسكر اعتقال ألماني لمدة عام تقريباً. حتى هناك، استمر في الكتابة، وأنهى رواية وهو في أسر الألمان بعنوان: (المال في البنك).
ثم تم نقله إلى فندق في برلين، حيث دعته الإذاعة الألمانية لبث سلسلة من القصص المصورة عن اعتقاله. وافق بسذاجة، لأنه كان حريصاً على طمأنة معجبيه أنه في صحة جيدة ومعنوياته مرتفعة. لكن ما لم يدركه أنه كان يلعب لصالح الحكومة النازية، التي يمكن أن تدعي أنها تعامل ضيفها الشهير بشكل جيد.
في بريطانيا، اتُهم بالتواطؤ مع العدو، ولم ينسَ الناس موقفه أثناء اعتقاله في ألمانيا، ولكن الغضب والاتهامات لم يؤثرا سلباً عليه في عمله بعد عودته لبريطانيا.
ظل وودهوس Wodehouse مرحاً رغم ما حدث في حياته. ومهما حدث في حياتنا نحن القراء فإنه يبقينا أيضاً مرحين.
قال جاي ماكينيرني، مؤلف كتاب (الأضواء الساطعة، المدينة الكبيرة) Bright Lights، Big City في مقابلة عام 2016: (لقد كنت مكتئباً إكلينيكياً طوال معظم عام 1999، وكنت أرجع لقراءة قصص وروايات Wodehouse، الذي ربما يكون أطرف كاتب في اللغة الإنجليزية. يبدو أنه أكثر فعالية في درء اليأس من مضادات الاكتئاب التي كنت أتناولها).

* نشر المقال على موقع BBC بتاريخ 24 ديسمبر 2020

ذو صلة