مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

حضور في الماضي.. وغياب في الحاضر

إذا كانت الفلسفة كما عرفها اليوناني فيثاغورس (495 - 570 ق.م) هي حب الحكمة؛ فإن (الحكمة) بعموم معناها ظلت أحد مرتكزات القصيدة العربية منذ فجر تاريخها، يستوحيها الشاعر (محباً لها) إما استلهاماً من خبرته الذاتية في الحياة، أو آخذاً من التراكم المعرفي الثقافي القائم في بيئته. وفي كلتا الحالتين تصدر هذه (الحكمة) منه نتاج تفكير متأمل في بعض مناحي الحياة الملحة، وهو من معاني الفلسفة.
هذا، والفلسفة من الأشياء التي يصعب انتماؤها حصراً لأمة من الأمم أو شعب من الشعوب، فهي كغيرها من كثير من المجالات البشرية، إرث بشري مشترك تساهم فيه البشرية جميعاً، إن كان على مستوى الأفراد أو الأقاليم أو الأمم أو الحضارات. فكل لاحق منهم يأتي ويدرس ما ترك السابق ثم يقدم مساهمته من معطيات تفكيره الصادرة من التراكم المعرفي البشري الآني. ثم يتركه لغيره من الأمم أو الحضارات اللاحقة لتضيف إلى ما كان أضاف من المساهمة الفلسفية. ولا تجد فيلسوفاً يتعاطى الفلسفة لأمته خاصة أو لإقليمه أو لزمانه. فالفلسفة مهمة بشرية عالمية، شأنها شأن كثير من العلوم، تساهم فيها كل الأمم والأفراد والحضارات. فلا بد للفيلسوف أن يكون عالمياً لا يحده زمان ولا مكان ولا دين ولا اعتقاد، لأن الفيلسوف يدرس مسائل الحياة الكبرى السارية على البشرية كلها. يدرس قضايا الوجود ونظرية المعرفة والقيم.. وغيرها، وهو بذلك يتعاطى مع الحقائق في إطلاقها دون حدود أو قيود فكرية أو اجتماعية أو غيرها، اللهم إلا مناهج الفلسفة والتفكير المرعية.
الفلسفة في الشعر العربي
ومن قديم تفكر الشعراء العرب في شأن الحياة وشأن الموت، وفي شؤون القيم والسلوك البشري وقوى الطبيعة. قال أبو الطيب المتنبي مازجاً الفن والشعر بالتفكر المتفلسف المتأمل مزجاً لذيذاً قل أن أصابه شاعر عربي، متأملاً في معنى الموت:
تمتع من سهاد أو رقاد
ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى
سوى معنى انتباهك والمنام
والمتنبي من أشهر من عرف بين شعراء العربية بالفلسفة أو (الحكمة). ولا ريب عندي أنه كان قد قرأ كثيراً في الفلسفة اليونانية، فهو من الشعراء النادرين الذين اهتموا بالثقافة والقراءة ومن أظهر من مارس التفكر والتفلسف، لأنا نجد أثر هذه القراءات الواسعة في شعره. كان المتنبي قارئاً نهماً ومثقفاً لا يجارى بالنسبة إلى أهل عصره. فقد ذكر كثيراً من مشاهير اليونانيين القدماء. قال يصف كلباً:
علم بقراط فصاد الأكحل
فحال ما للقفز للتجدل
وقال:
يموت راعي الضأن في سربه
ميتة جالينوس في طبه
وبقراط هو أبقراط الطبيب اليوناني الشهير، وجالينوس طبيب يوناني قديم كذلك، يسميه الرازي (ثاني الفاضلين)، لأن العرب يسمون أبقراط (بالفاضل). وقال كذلك:
من مبلغ الأعراب أني بعدها
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ومللت نحر عشارها فأضافني
من ينحر البدر النضار لمن قرى
وسمعت بطليموس دارس كتبه
متملكاً متبدياً متحضراً
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصرا
فهو هنا قد ذكر في أربعة أبيات علمين من أعلام اليونان، هذا سوى (الفاضلين) الذين عنى بهم غير هذين من المشاهير والعلماء الأقدمين الذين فضلوا الناس بعلمهم. ورسطاليس هو أرسطو الفيلسوف اليوناني المعروف. فلا ريب أن المتنبي كان قد قرأ له كثيراً ووقف على آرائه وفلسفته. وبطليموس رياضي وفلكي وشاعر يوناني قديم كذلك.
وممن اشتهر من بين شعراء العرب القدماء بالفلسفة والتفكر أبو العلاء المعري، قال متفكراً مازجاً شعره بالفلسفة والتفكر العميق:
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
إن حزناً في ساعة الموت أضعا
ف سرور في ساعة الميلاد
خلق الناس للبقاء فضلت
أمة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما
ل إلى دار شقوة أو رشاد
ضجعة الموت رقدة يستريح الـ
جسم فيها والعيش مثل السهاد
وقد قال فيها كذلك:
والذي حارت البرية فيــ
ـه حيوان مستحدث من جماد
ولقد قدم أبو العلاء المعري مساهمةً فكرية فلسفية قيمةً، احتواها ديوانه القيم (اللزوميات). فهذا الديوان الشعري وإن قصد به أبو العلاء نقد الخطاب الديني الموروث في عمومه كما قصد به نقداً اجتماعياً كذلك، إلا أنه في هذا النقد جاء بفكر نير، وفيه ما يشبه أن يكون استراتيجيةً اجتماعية مكتملة. كما أنه تناول مسائل الوجود الكبرى من حياة وممات، وأمعن النظر في الطبيعة البشرية وفلسفة الأديان. الجدير بالذكر هنا أن أعمال أبي العلاء قد ترجمت في وقت مبكر إلى اللاتينية وغيرها من لغات أوروبا، كما ترجم ديوان المتنبي. وأبدى الأوربيون اهتماماً عظيماً بأعمالهما، وكان لأعمال أبي العلاء، وربما للمتنبي كذلك، أثرها في الأدب والفكر الأوروبيين منذ زمان باكر. وما أحراها أن تكون قد أسهمت في تشكيل الفلسفة الأوروبية الوسيطة والحديثة. وغير خاف أثر (رسالة الغفران) العلائية في كوميديا دانتي أليغييري الإلهية.
هذا، وأكثر ما تعاطى الشعراء العرب الفلسفة حينما كانوا يتأملون أحوال الحياة أو في رثائهم الأعزاء. وكثير من شعراء العرب في العصر الحديث قد تعاطى الفلسفة والتفكر المتأمل في شعره. قال الشاعر العراقي محمد المهدي جواهري، وهو يرثي زوجته، ولكن متأملاً في كيفية جريان الأحداث في الحياة، وعسر فهم قانون لها أو نظام:
تجري على رسلها الدنيا ويتبعها
رأي بتعليل مجراها ومعتقد
أعيا الفلاسفة الأحرار جهلهم
ماذا يخبي لهم في دفتيه غد
أهي فلسفة عربية أم إسلامية؟
وإذا كان اليونانيون هم من أظهر الأمم في التعاطي الفلسفي دون أن يدعوا حصرية للفلسفة فيهم، فثمة أسئلة تنشأ في هذا المقام: هل هناك فلسفة عربية، وفلاسفة عرب؟ أو هل ساهم العرب في الفلسفة؟ وإذا وجدت للعرب مساهمة فلسفية فهل لها من أثر على حياتهم، أو على العالم؟
وللإجابة عن مثل هذه الأسئلة، لا بد من الالتفات إلى جدلية الثقافتين العربية والإسلامية، وإمكانية الفصل بينهما. وللكاتب الفرنسي جان جوليفيه رأي ذهب فيه إلى أن (الفلسفة ولدت مرتين في الإسلام: بداية من خلال ثيولوجيا خاصة بالإسلام (علم الكلام)، ثم من خلال تيار فلسفي ينهل في جزئه الأكبر من الأصول اليونانية). ويبدو أن هذا الرأي منه بشقيه (الثيولوجي الإسلامي واليوناني) قد جمعهما معاً مدرسة المعتزلة التي ازدهرت في البصرة وبغداد بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين. فالمعتزلة، بمناصرة الخليفة المأمون، هم أول من أعلى من قيمة العقل على حساب النقل في الإسلاميات، وذلك قبل أن تعود هيمنة النقل على العقل في التفكير الإسلامي على يد أهل السنة والجماعة. وبذلك فقد نشأ علم الكلام (الثيولوجيا الإسلامية)، ثم تفرعت المذاهب العقلية والفكرية في علم الكلام فظهر الأشاعرة والماتريدية وغيرهما من المدارس الاعتقادية.
نعم، وجدت فلسفة عربية. فقد تلمسنا ذلك في أعمال كل من المتنبي وأبي العلاء المعري، وفي سائر الشعر العربي في كل تاريخه باعتماد (الحكمة) عنصراً حاضراً من عناصر القصيدة العربية. ونعم مرة أخرى، وجدت فلسفة عربية وإن كان أكثر الفلاسفة بين العرب ذوي أصول غير عربية. فابن سينا والفارابي والرازي وغيرهم لم يكونوا ذوي أصول عربية. ولكن الثقافة العربية لا يشترط فيها أن يكون منتجوها عرباً (أقحاحاً) ومن أصول عربية. لأن الثقافة العربية ما هي إلا منتوج اللغة العربية التي هي في أصلها منتوج العقل العربي، في البيئة العربية والحياة العربية الماثلة. فكل من ابن سينا والرازي إنما أنتجا فلسفتهما باللغة العربية وقد مازج عقلهما الثقافة العربية بنكهتها وروحها. ولذا صح أن تسمى الفلسفة منهما عربيةً، لا إسلاميةً، لأنها وليدة البيئة العربية ومنتوج العقل العربي، ولأن الإسلام يقتصر على معنى الدين والاعتقاد، على حين أن الفلسفة نشاط معرفي وإرث بشري عام اشترك فيه كل الأجناس والحضارات بمختلف الأديان والمعتقدات، فقامت الفلسفة البشرية على قدم وساق. فرأي ابن سينا مثلاً في الروح والجسد، أو الحياة والموت، في قصيدته:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع
ألفت وما سكنت، فلما واصلت
ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهوداً بالحمى
ومنازلاً بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها
عن ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت
بين المعالم والطلول الخضع
تبكي وقد ذكرت عهوداً بالحمى
بمدامع تهمي ولما تقلع
وتظل ساجعةً على الدمن التي
درست بتكرار الرياح الأربع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها
قفص عن الأوج الفسيح المربع
حتى إذا قرب المسير من الحمى
ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت
ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وغدت مفارقةً لكل مخلف
عنها حليف الترب غير مشيع
وبدت تغرد فوق ذروة شاهق
والعلم يرفع كل من لم يرفع
فلأي شيء أهبطت من شاهق
عال إلى قعر الحضيض الأوضع؟
إن كان أهبطها الإله لحكمة
طويت على الفذ اللبيب الأروع
وهبوطها إن كان ضربة لازب
لتكون سامعةً بما لم تسمع
وتعود عالمةً بكل خفية
في العالمين، فخرقها لم يرقع
وهي التي قطع الزمان طريقها
حتى لقد غربت بغير المطلع
فكأنها برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
لا يدل على أنه صادر من منقول نص إسلامي محدد، بقدر ما يدل على تفكير فلسفي عام انطلق من عناصر تفكير مختلفة الأزمان والأمكنة.
هذا ومعلوم أن العرب بعد أن تكونت لديهم الحضارة في دمشق وبغداد، لم يكتفوا بما ورثوه من علوم فارس والهند واليونانيين، وإنما استوعبوا هذه العلوم وكيفوها على العقل العربي وأضافوا إليها منه إضافات معتبرةً، ثم أنتجوا ثقافةً عربية الطابع والطعم. ثم انتقلت هذه العلوم والمعارف والفلسفة إلى أوروبا في العصور الوسطى عن طريق الشام والأندلس وصقلية، لتساهم بعد ذلك في تكوين الحضارة الأوروبية الحديثة، أو قل الحضارة البشرية كما هي الآن.
هل من فلسفة عربية اليوم في عالمنا المعاصر؟
وللإجابة عن هذا السؤال، نقول إن (الثيولوجيا الإسلامية) مثلما كانت أثارت في العرب نزعة المعرفة والتفكير والفلسفة، (بالإضافة إلى ما كان عندهم من حكمة في أشعارهم)، عادت هذه الثيولوجيا فنزعت منهم عنصر التفكير وأذهبت عنهم ما كان بهم من فلسفة واهتمام بها. ففي القرن الحادي عشر ظهر الإمام أبو حامد الغزالي (1058 - 1111م) المتكلم، متكلماً في الثيولوجيا الإسلامية. جاء هذا الإمام وقد أنتجته المعارك الفكرية والكلامية التي ابتدرها المعتزلة على نحو ما رأينا آنفاً. كان الغزالي من أهل السنة والجماعة وأشعري العقيدة والمذهب الفكري الديني في مسألة الذات والصفات، إحدى مسائل علم الكلام أو الثيولوجيا. وقد عرف الغزالي بهجومه الشديد على الفلسفة والفلاسفة فألف كتابه الشهير (تهافت الفلاسفة) ينتقد فيه الفلسفة ومن يتعاطاها، وذلك أظهر من دعا إليه الكتاب. وبذلك فقد استعدى الغزالي المسلمين على الفلسفة، بعد أن نحا بها منحى التكفير من التفكير، وأنها تتعارض مع الإيمان. وكانت نتيجة ذلك أن نفر العرب والمسلمون من الفلسفة وتركوها متهمين لها بالضلال والكفر. ولم يزل هذا النفور قائماً إلى اليوم، حتى استشرى هذا الترك في مدارسهم وجامعاتهم المعاصرة، إلا قليلاً. وخرجت الفلسفة من الثقافة العربية خروجاً واضحاً ولم تعد ذات أثر يذكر في حياة العرب، في الوقت الذي ازدهرت فيه هذه الفلسفة في سائر الأمم والشعوب المتقدمة.
هذا، وبعد الغزالي بقليل جاء ابن رشد الأندلسي (1126 - 1198) وأتقن درس الفلسفة اليونانية وغيرها من الفلسفات، كما أتقن درس علم الكلام الإسلامي (الثيولوجيا). عرف ابن رشد بشرحه العالمي لفلسفة أرسطو على شروح ثلاثة مشهورة، وهو بذلك يعد من قدم فلسفة أرسطو إلى العالم الحديث. وقد اهتم الأوروبيون بشروحه ودرسوها في جامعاتهم ولذلك أطلقوا عليهم لقب (المعلق). عرف عن ابن رشد اهتمامه بالفلسفة ومعرفته لقيمتها وأثرها في حياة الناس وتقدمهم. وقد انتصر للفلسفة، وهاله ما رأى من عداء من عموم المسلمين (والعرب من بينهم) للفلسفة اتباعاً للغزالي. فكتب كتابه الشهير (تهافت التهافت) يرد فيه للفلسفة اعتبارها وقيمتها التي عرفها لها، وذهب إلى أنها لا تتعارض مع الدين ولكنها معه يتكاملان لخير البشرية. أراد ابن رشد رد الناس إلى الفلسفة ودرسها. غير أنه يبدو أن جهده هذا جاء متأخراً. فقد كان رأي الغزالي قد ساد في الناس وتملكهم تملكاً، بما له من قداسة بين الناس وصوفية وتبحر في علم الكلام التقليدي. وعلى ذلك لم تجد جهود ابن رشد في إعادة قومه إلى الاهتمام بالفلسفة. بل اتهم بالزندقة وأحرقت كتبه في أخبار مشهورة.
وأغلب الظن عندي أن وضعية العرب اليوم بين الأمم في كونهم ليسوا من منتجي المعرفة يعود إلى عدائهم للفلسفة وعدم الاهتمام بها في حياتهم. فالفلسفة، بما لها من منهجية صارمة في التفكير، تدخل في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والصناعية والتربوية وغيرها من مناحيها.
هذا، وثمة جهود ضئيلة في العمل الفلسفي لدى العرب، قادها نفر قليل منهم. فقد أصدر الأستاذ العقاد كتابين فيها هما (مجمع الأحياء)، و(الله)، هذا سوى ما انتهجه من مناهج التفكير في كثير مما كتب، مثل كتابه (التفكير فريضة إسلامية). وقد أقبل طه حسين على دراسة الأدب العربي ونقده من منظور فلسفي، فطبق المنهج الفلسفي للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت القائم على الشك، أو ما عرف (بالشك المنهجي) فأصدر كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي) سنة 1926، ليحدث ضجة كبرى حتى صودر الكتاب، ليعالج ويخرج لاحقاً في عنوان جديد هو (في الأدب الجاهلي). ومهما يكن الرأي حول ما انتهى إليه الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي نفياً أو إثباتاً، فقد أعمل الفلسفة في النقد الأدبي المنهجي. وكان من أثر ذلك أن أفاد هذا الدرس الأدبي بتلك الفلسفة الأدب العربي ودفع إلى تطور منهج النقدي عند العرب. فأقبل العرب على دراسة أدبهم بجد ومنهجية صحيحة. وعلى سبيل المثال، لولا هذا العمل من طه حسين ما كان ليخرج إلينا كتاب (مصادر الشعر الجاهلي) للدكتور ناصر الدين الأسد. وهو كتاب قيم للغاية.
هذا، ومثلما سبق أن كان الخطاب الديني والثيولوجيا الدينية عند المسلمين مما دفعهم إلى التفكير والفلسفة على نحو ما رأينا عند المعتزلة وعند أبي العلاء المعري وابن سينا وغيرهم، عاد هذا الخطاب الديني اليوم، بما هو فيه من تهالك وانحطاط، ليدفعهم مرةً إلى الفلسفة والتفكير الراشد في تراثهم الديني وفي كل مناحي حياتهم. فقد ظهر من يتعاطى التفكير الفلسفي في هذا التراث مفيداً من معطيات الفلسفة الحديث بما انتهت إليه من مناهج ووسائل. فظهر محمد أركون ونصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور. فهؤلاء العلماء أصدروا منتوجات فكريةً تناولت تقويم الخطاب الديني الراهن بقوة، ولكنها لم تنس التفكير العقلي الرحيب، بمناهج الفلسفة المرعية، وهو ما يمكن أن نسميه فلسفة عربية معاصرة ناهضة، ربما يكون لها ما بعدها. وهو تيار إن تنامى وتصاعد فمن المأمول به أن يعود العرب أمةً منتجة للمعرفة، ومساهمةً في الحضارة والتطور البشري بقوة.
وصفوة القول عندنا أن الفلسفة لا تزال ضئيلة التأثير في الثقافة العربية في عمومها كما يجب أن يكون هذا التأثير، بسبب سيادة الخطاب الديني القائم على النقل دون العقل في عمومه. ولكن هذه الجهود التي أشرنا إليها هنا من قريب لدى المفكرين العرب المعاصرين، من المأمول لها أن تثمر وأن تعزز من اهتمام العرب بهذه الفلسفة، إذ إنه بغيرها لا يمكن أن يكون هناك منتوج معرفي مؤثر.

ذو صلة