السؤال عن فلسفة عربية سؤال كد الفكر في طرحه ومازال. وقد أفاض فيه النظر، بحثاً ومدارسة حتى نكاد لا نستطيع الزيادة عليه. فليس بمقدور المرء، إزاء هذا الوضع، أن يدعي الوقوع على أمر لم يدركه بحثاً، ولم ينفذ إليه نظر من قبل. من أجل ذلك نعقد همنا الفلسفي، في هذه المناسبة، على استبدال النظر في إمكان الفلسفة العربية بالتفكير في شروط ذلك الإمكان من جهة التماس السبيل إليها، فيكون سؤال الطريق إلى إمكان تلك الفلسفة بديلاً عن السؤال الذي يسوغ الاعتقاد في وجودها الفعلي. وبذلك ينقلب البحث من تدبر لواقعة وتفكر في المعطى إلى اضطلاع بمهمة. ذلك ما قدرناه ممكناً آخر في هذا الصدد، على أن ذلك يظل، في تقديرنا، مشروطاً بتفصيل ذلك الممكن والتبسط فيه على النحو الذي يعلل خصوصية تلك المهمة ما أخذنا بالاعتبار ارتباطها بترسم معالم الطريق إلى الفلسفة العربية، طريقاً المسوغ فيه لحظة أساسية من شأنها أن تسهم في تشخيص وضع الفلسفة العربية وأن تترسم آفاقها، ألا وهي لحظة الشرح بما تنطوي عليها من قدرة على القراءة، تأويلاً، وعلى إعادة البناء، تأسيساً.
يوشك الإجماع أن يكون حاصلاً على استغراق الفلسفة العربية الإسلامية، منذ نشأتها، ضمن سياق مهمة شرح التراث اليوناني وذلك على جهة الاستيعاب وتوضيح المقاصد بياناً وتبييناً. وأنه لا فرق في ذلك بين فلسفة وأخرى إلا بظهورها في الشرح نفاذاً وتدقيقاً إلى الحد الذي أُجريت فيه مهمة الشرح من تلك الفلسفة مجرى الهوية الراسخة. فجميع الفلسفات، وعلى اختلاف أنساقها، ظلت شارحة لذلك التراث دون أن نعدم من ذلك تلك التي اتخذت منه موقفاً نقدياً بلغ حد رفضه.
ابن رشد أرسطياً
بيد أن الذي يضطلع بالنظر في مهمة الشرح من شأنه أن ينبه إلى ما فيه من خصوصية تعلل وجه الطرافة في الفلسفة العربية الإسلامية، فضلاً عن مكامن الإضافة فيها. على أن ذلك لا يتسنى ما لم نستأنس بمرجعية فلسفية تكون لنا سنداً عاضداً لما ذهبنا إليه. ولنا من أجل ذلك أن نتخير شروحات ابن رشد على أرسطو إطاراً مرجعياً لتعليل خصوصية الشرح. وإن لخيارنا ما يسوغه اعتباراً لتميز الوضع الذي تحوزه تلك الشروحات فلسفياً وتاريخياً، تميزاً رفع ابن رشد إلى مقام الشارح الكبير.
وليس غريباً أن تُلحق بابن رشد صفة الشارح الكبير، نظراً لاضطلاعه بمهمة تفسير أعمال أرسطو وشرحها وعلى النحو الذي يكون فيه وافيا بمقاصدها دون تلبيس أو تحريف، خصوصاً أن الأسباب قد تهيأت له سواء بالنظر إلى قصور من سبقه في هذا الأمر عن إدراك تلك المقاصد أو بالنظر إلى ما يتوفر عليه من خصائص ومميزات تؤهله لإنجاز تلك المهمة على النحو الأكمل وتجعله الأقدر عليها من دون تقصير. فهو (الأجود ذهناً والأصفى قريحة، فضلاً عن كونه الأقوى نزوعاً لهذه الصناعة) على حد وصف ابن طفيل، ولذلك فهو الأقدر على بيان الأغراض وفك الغموض ورفع الالتباس وإيضاح ما ألغز على القارئ واستغلق جراء قلق عبارة أرسطو وعبارة الشراح والمترجمين السابقين، يونانيين كانوا أو عرباً، إضافة إلى أخطائهم وسوء تمثلهم للأغراض والمقاصد، الأمر الذي جعل كلامهم مدخولاً وفي غاية التلبيس، ما أوجب ضرورة الشرح لفهم الغرض وإزالة الغموض وتصويب الخطأ، وهو عين ما اضطلع به ابن رشد حيال آثار أرسطو.
أرسطو رشدياً
من أجل ذلك قدر ابن رشد لمهمة الشرح الأهداف التالية: أولاً، استعادة الفكر الأرسطي الأصيل باعتباره فكر الحق. ثانياً، تجاوز ضلالات الترجمات والشروحات من جهة، وتحريفات المقاربات الفلسفية من جهة أخرى. ثالثاً، تخطي قلق العبارة الأرسطية بإرساء خطاب يتوافر على مفاهيم غير ملتبسة الدلالة وإن كانت إنشاء رشدياً صميماً. لكن تحديد تلك الأهداف يجعل الشرح في ظاهره لا يزيد على المسايرة الوصفية لقول أرسطو وإن كان، في ثناياه، يتوافر على تأويل للكلام وتوجيه للمقصد وافتراض لما أُريد قوله وإن لم يكن بيناً في ما قيل فعلاً. وفي ذلك تعليل لاستحالته إلى تفسير يُخبر عن الحق، من وجه، ويتأول المقصد ويوجهه على النحو الذي يكون فيه وافياً بمقتضيات الرؤية الرشدية، من وجه آخر. ولنا في تفسير ابن رشد لمفهوم الجوهر الأرسطي مثل ودليل. حيث يخلص، من بعد تأكيد القول بمركزية مسألة الجوهر في مستوى الانشغال الأرسطي ضمن سياق (ما بعد الطبيعة)، إلى حمل مفهوم الجوهر الأول على الخالق، التي ترسخت دلالته بقوة ضمن إطار الثقافة العربية الإسلامية، حتى وإن لم يقم النص الأرسطي سنداً عاضداً لذلك الحمل، إذ يكفي تأويله من جهة تدبير ما أراد أرسطو قوله وما قصده حتى يكون القصد وتكون إرادة القول قرينة دالة لما تأوله ابن رشد حين قال: (يريد (أرسطو) بالجوهر الأول المبدأ الأول للجواهر وهو الله سبحانه).
هكذا نتبين كيف ينتقل التفسير من مستوى القول إلى مستوى إرادة القول انتقالاً تأويلياً يسوغه التنبيه على المقاصد تعليلاً لرؤية الشارح والمفسر وتشريعاً لها، وهاهنا، يكون التوجيه بيناً بالنظر إلى المفهوم. وعلى هذا النحو يكون التفسير في ظاهره شرحاً وفي باطنه تأويلاً وافياً بمقاصد الشارح إلى الحد الذي يمكن معه القول بإمكان تأسيس فلسفة خاصة انطلاقاً من الشرح ذاته. وفي هذا السياق يقول (الجابري) ما يلي: (كثيرة هي الأفكار التي يبتكرها ابن رشد وينسبها صراحة أو ضمناً لأرسطو، لا لكون المعلم الأول قال بها، بل لأن سياق المنظومة الأرسطية يحتمل القول بها من جهة، ولأنها تقرب المنظور الأرسطي إلى المنظور الإسلامي من جهة أخرى. إن هناك فعلاً فلسفة رشدية خاصة وأصلية داخل شروحه على أرسطو، فلسفة جديرة حقاً بهذا الاسم، إسلامية جديرة حقاً بهذا الوصف). (نحن والتراث).
واعتباراً لما قدرناه من وضع لمهمتي الشرح والتفسير، استناداً إلى الأنموذج الرشدي، حق علينا القول بخصوصية تلك المهمة سواء من جهة فرادتها في كيفية استيعاب التراث الفلسفي أو من جهة طرافتها في جعل الاستيعاب مهاداً للتأسيس. ذلك ما يعلل في تقديرنا اعتبار الشرح أول لحظة من لحظات التنبيه على سبيل إلى فلسفة عربية إسلامية ممكنة.