مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

شروط الانتساب إلى التاريخ

لم تتوقف الحاجة إلى الفلسفة في تاريخ الفكر العربي بمختلف أجناسه، فكلما نشأ أو تطور نمط معرفي كانت هناك حاجة إلى مصاحبة فلسفية أو رقابة نقدية: مصاحبة علم الكلام للفقه، مصاحبة إخوان الصفا للسياسة، مصاحبة العقل للنقل. وبذلك، يتجلى تنامي الفكر ضمن خطاب فلسفي يميزه، من الكندي مروراً بالفارابي وابن سينا وصولاً إلى ابن رشد. وهو خطاب يمتاز بنسقية بنائه وصياغته.
لكن لا نماري في أن الفلسفة العربية، اليوم، معضلة. ليس لكونها غير ممكنة وإنما لكوننا في أمس الحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك ما زالت بُنى الثقافة العامة لدينا تنكرها. فنحن لم نصل بعدُ إلى إبداع المفاهيم التي من شأنها أن تتمثل أوضاعنا بحسب منطق التاريخ. فالمطلوب الملح، اليومَ، هو الإفادة من منجزات الفكر الفلسفي المعاصر بتَبْيِئَتِهِ وتكييفه للسيطرة عليه بدل الانبهار به والبقاء تحت سيطرته.
الثقافة الفلسفية: إحراجاتها ورهاناتها
قد يكون المدخل الأنسب إلى تدبر منزلة الفلسفة من الثقافة العامة هو ضبط كيفيات اشتغالها هي نفسها في الفضاء العمومي بوصفه فضاءً يتداخل فيه السياسي والاجتماعي والفني. وذلك حتى يتسنى للفلسفة أن ترافق التفكير التاريخي حتى يكون العالَم الحديث في مستوى حداثته وجديراً بها. بيد أن المصاحبة الفلسفية معقودة على جملة أسئلة مركزية من بينها: ما هي السبيل إلى إنشاء مجتمع حديث في عالَم حديث؟ فمما هو موكول إلى الفلسفة المؤمَلة هو أن تراهن على حل هذه المفارقة المتمثلة في كوننا، نحن العرب، نسجل حضورنا صورياً في هذا العالَم الحديث، لكننا جوهرياً نوجَد على أطرافه، وحتى على حوافه الخارجية أحياناً. وهذا يشق هويتنا بجرح غائر، فنحن نوجه فكرنا إلى قضايا ما زالت عالقة به من سياقات تاريخية قديمة، ونكاد نعجز عن تأسيس فكر نوجهه إلى القضايا التاريخية الراهنة، فنستورد لها فكر غيرنا أو نسقط عليها نمطاً فكرياً قديماً لا يناسبها. بالفعل، نلاحظ أن الفلسفة لدينا ما زالت محكومة بإشكالية علاقتها بالدين وإن تغيرت الصيغ الخِطابية. وهذا ما يدعونا بحق إلى التحلي بالجرأة من أجل تغيير البراديغم المناسب. وبعبارة أخرى، فإنه من أجل أن يكون لنا خطاب فلسفي يميزنا، فإنه لا يتعين علينا ضرورة أن نزهد في الموضوع القديم الذي ما زال يلاحقنا تاريخياً، وإنما يتعين علينا أن نُقبل عليه ببراديغم جديد. فكما يقول أميل برييه (ليس الموضوع هو الذي يميز فكراً فلسفياً معيناً، وإنما الروح الذي يصدر عنه هذا الفكر والنظام الفكري الذي يستند إليه). وهذا هو مغزى القول ببراديغم جديد. ومن شأن هذا البراديغم المعقود على الفهم والتأويل أن يسمح بمعالجة وضعية يشقها تناقض صارخ حيث يتمسك منتسبون إلى اختصاصات علمية متنوعة بقصص الخوارق والخرافات فيصدون أذهانهم عن ال-فهم بحسب القوانين العلمية. وهم يحسبون أنهم بهذه المجاورة بين نمطين معرفيين متناقضين قد دمجوا الماضي في الحاضر، في حين أنهم في واقع الأمر يحيون، بانفصام صارخ، زمنين متعارضين فكأنهم يعيشون في الوقت نفسه في عالَميْن.
الدرس الفلسفي
لا يمكن أن نتبين قيمة الفلسفة في الراهن العربي إلا إذا أعدنا اختبار الدرس الفلسفي في الثانويات والجامعات العربية، وهو درس يجري تدبره بتفاوت، لا محالة، بين بلد وبلد، بل وبين جامعة وجامعة، لاعتبارات سياسية وأيديولوجية متباينة. والدرس الفلسفي لدينا يعيش علاقة مزدوجة بتاريخ الفلسفة، علاقة بتاريخ الفلسفة العربية وعلاقة بتاريخ الفلسفة الغربية، بل هو يستحضر تاريخيْن لا يستطيع أن يمد الجسور بينهما ليتحرر أولاً من سياج التأريخ، وليُبنى بما هو درس فكري، أي بما هو تفلسف. ومن شروط التفلسف هو كيف نقرأ تواريخ الفلسفة! أي كيف تكون قراءتنا فلسفية لا رواية تاريخية! هاهنا تلوح بقوة وجاهة القراءة التأويلية بوصفها قراءة حرة ومضبوطة منهجياً في آن. على أن التفلسف الذي يتعهده الدرس في الثانوية أو في الجامعة إنما قرين المراس النقدي. فالمطلوب هو نشر تعليم فلسفي يكرس الدربة على النقد بما هو صنو للتحرر.
وفي هذا السياق، لا بد من التشديد على الحاجة الماسة إلى ثقافة السؤال، أي أن نتعلم كيف نسأل، وعما نسأل! وذلك حتى يتيسر مد الجسور بين مشاريع نخبوية، فوقية لا محالة، وبين مضامين راكدة من الوعي العام حتى يتسنى تحريكها. فالأسئلة، ولئن كانت تسهم في إجراء التفكير منهجياً وتحصيل معرفة محكمة البناء؛ فإنها تضطلع بوظيفة إرباك السائد والمعهود من الأحكام والقيم التي تؤثث فضاء الثقافة العامة. ولذلك يجدر التنويه بأن السؤال الفلسفي يُبْنى قبل أن يُطرح فهو ليس مجرد استفهام وإنما هو من مفاتيح القراءة.
قد يعترض معترض أن مثل هذا الدرس يفرض التغيير من أعلى الهرم، أي تغييراً فوقياً. ويبدو أنه لا مناص من هذا الخيار، لكن ذلك لا يعني بالضرورة التعسف على البنى التحتية للثقافة، وإنما يعني القدرة على استيعابها من حيث مفترضاتها وتمظهراتها حتى يتسنى تأويلها والاهتداء إلى سبل التعاطي معها بحسب مقتضيات اللحظة التاريخية. فتنكب الماضوية لا يعني القطع مع الماضي، وإنما يعني العدول عن التفكير بحسب صيغ الماضي. صحيح أن الوضعية التي نحن بصددها وضعية مفارقية، فالثقافة العامة التي نستند إليها عامرة بمضامين وأشكال مورثة من الماضي، ونحتاج بموجب منطق التاريخ أن نمررها على محك العقل الفلسفي المتجدد.
كل هذا الذي سقناه مجملاً هو ما يسوغ الحاجة، اليومَ، إلى أن نرفع شعار (الفلسفة للجميع) حيث ينكب السؤال الفلسفي موضوعات من واقعنا المعيش، وعلى تناول إنتاجات ثقافية من بيئتنا. لكن ذلك لا يعني بالضرورة تبسيط القول الفلسفي وابتذاله، إلا ما يقتضيه التبسيط البيداغوجي للتواصل.
التفلسف عربياً: الخانة الفارغة في رقعة الثقافة الكونية!
يكفي استقراء عاجل لمكانة سالف الحضارة العربية الإسلامية بين تاريخ الأمم لترجيح أمر، لا يُمارى فيه في تقديرنا، وهو أن هناك حيزاً يتعين على تراث العرب بثقافاته المتنوعة أن يشغله في التاريخ الراهن للبشرية، وهو حيز عالق بعدُ أو هو خانة فارغة في رقعة الثقافة الكونية. فإذا كان هناك مؤرخون عرب، ومن غير العرب أيضاً، يعودون على تاريخهم، السياسي تخصيصاً، بالقراءة تفكيكاً وإعادةَ بناء تحت راية هذه المدرسة التاريخية أو تلك، وإذا كان هناك باحثون ونقاد يعيدون النظر في بُنى تراثهم الأدبي والبلاغي على ضوء ما استجد من مناهج ومقاربات، وإذا كان هناك علماء اجتماع يشخصون الوقائع والسياقات الاجتماعية التي تتواصل فيها المجتمعات العربية وتعتمل ضمنها ممارساتهم استناداً إلى هذه الرؤية السوسيولوجية أو تلك، وإذا كان هناك أساتذة فلسفة يحرصون على أن يولوا تاريخ الفلسفة الإسلامية الاهتمام الأكاديمي بما يخصصون لها من حصص في درس الفلسفة، فإن واقع العرب -ولا نظن أحداً يماري في كونه ما زال يحتل موقع قطب الرحى من السياسات الدولية حتى بالسلب وحتى بعدم تأثيرهم في القرارات العالمية- هو حقلٌ وحْشي ينتظر أن تلم به المفهمة الفلسفية حتى يستأنس. أما وهو كذلك فضيره ليس على ثقافة العرب وحدهم، وإنما على (كونية الثقافة الإنسانية) طالما أنها لم تدرك أن قصورها عن الاستغيار empathy في فضاء الثقافة العربية يجعلها ثقافة موصومة في كونيتها.

ذو صلة