يثير مصطلح الفلسفة العربية عدة تساؤلات متعلقة بماهيته، حينما يتهرب من استشكاله عن طريق الاستنجاد بجغرافية الفكر، فبقدر توسله بسلطة معيارية وبقدر ما يوحي به من انتقائية تلوذ بالتحيز إلى محمول معرفي محدد، فهو يقع في مأزق الخواء من خلال الجمع بين مرجعيتين متناقضتين أو الالتحاف بهوية تلفيقية، وعلى مر التاريخ اتهم العقل العربي بأنه عاجز عن تقديم منجز فلسفي، فهو عقل ادعائي لم يستطع التحرر من بداوته، ولأن الفلسفة في أبسط تعريف لها عبارة عن إثارة للأسئلة الوجودية الكبرى، وتودد لتناسلية الإشكالات المعرفية وارتياد للعوالم الغامضة ومساءلة للبداهات وزعزعة لليقينيات، فالإنسان العربي لا يستطيع الادعاء أنه قدم منجزاً فلسفياً لأنه لم يستطع التحرر من سلطة المقول/الخطاب، ولا من المرجعيات التي حددت على مر العصور طريقة تفكيره، وعملت على إقبار عقله ومنعت عنه محفزات الاختلاف ومغامرة الاكتشاف والنبش في المسافات المعتمة، ناهيك عن وجود تاريخ من الطمس والتصفيات الفكرية والجسدية، والذي عززته السلطة الدينية والسياسية وحتى المعرفية.
ينفلت السؤال الفلسفي إذن من ربقة اليقينية، ليؤسس وجوداً ملتبساً بهوية التأجيل، إذ يعثر على اعتباراته في مسافات الصمت والبوح المتعثر، وفي الفجوات الخطابية المسيجة بالشك والريبة والتوجس، وحيث إن العقل العربي تلقيني فهو لم يعثر على لحظته الفلسفية حسب البعض، أو أنه كاد يعثر عليها ثم فقدها بفعل انتكاسات وانهزامات وتاريخ من القمع الممارس، فالممارسة الفلسفية بماهي مفاعيل نيابية لا تتحرر من داء المطابقة ومن الاستعارة المفاهيمية، لكن ذلك لا يمنع التعين الفلسفي من لواحقه، فملفوظ (العربية) وإن كان بحمولة إيديولوجية إلا أنها تنطق بوعي فلسفي مغاير يحاول أن يتموضع ضمن مفهومية قد أحدثت قطيعة معرفية من خلال القتل الرمزي للمنجز الفلسفي الغربي.
وأما الحديث عن نخبوية الفلسفة فقد تعزز من العداء المنصوب لها، وحيث إن الإلغاز يهدد سلطة المخاطب ويزعزع يقينياته ويشكك في مسلماته، فهو يصدمه بالمغايرة وبإعادة قراءة الراهن وفق تأويلية منفتحة ومتعددة، بعيداً عن التفسيرات الأحادية أو الخطابات الاعتيادية، وفي تعاليه يبني إقصائيته لدى عموم الناس ولدى شريحة كبيرة من المثقفين أيضاً.
تقف الفلسفة اليوم في زمن البعديات أمام رهان كبير، خصوصاً وأن مهمتها الهدم وإثارة القلق وليس تشييد الأنساق، فبقدر ماتشتكي من التحولات الرقمية الجديدة وتتكلم عن موت الفلسفة، فإنها مطالبة بتحرير نفسها من سلطة النموذج وتجديد خطاباتها وفق متلازمة الاختفاء/الابتلاع، إذ ستجد نفسها أمام سطوح وثنيات تحتفي باللامعنى وتقذف بالعالم بعيداً عن ذاته، عالم متفردن يحتفي بمركزية الذات رغم أنه ينفيها في نفس الوقت، والتي ستتسمى بمسمى المتلقي الرقمي الذي يحتاج إلى قاموس مفاهيمي فلسفي متجدد مواكب لهذا التسارع التكنولوجي، ومستوعب لتفاصيله وللإشكاليات المتعلقة به، وهو ما يطرح أمامنا جوازية مسمى الفلسفة الرقمية التي تجابه ذاتاً افتراضية وعقلاً كمياً يقف على أرضية الاحتمال، حيث المعنى مغيب، وحيث الإنجازية تنتهك المعيارية، ورغم ذلك نجد أن العقل الفلسفي المعاصر تعالى على هذه التحولات، لكنه وجد نفسه رغماً عنه منخرطاً في السجالات المتعلقة بهذا العالم الجديد، ورغم أن الامتلاء الذي تشي به السطوح هو مايعد بنهاية الفلسفة ويقف كفزاعة أمامها، ورغم أن الرقميات تدخلنا في منفى اعتباري وتقوض الهويات السردية الفلسفية، وتعد بنسيان الكينونة أمام شاشة تتلقف أحزاننا لتحولها إلى هامش حكائي، إلا أن الفيلسوف المعاصر ينخرط في هذه الاحتمالية عبر نزوله من برجه العاجي وإسهامه في خارطة النقاش الرقمي الفلسفي المعاصر بشكل إلزامي.