لماذا لم نتفلسف بعد؟ سؤال محرج لنا نحن -المنشغلين بالفلسفة-، سؤال يقظ عقولنا المنبهرة بالتجارب الفلسفية الكونية، التي نجد أنفسنا مهتمين بإنجازاتها الكبرى، منهمكين باستعادتها، فلا يبلغ أقصى جهدنا واجتهادنا سوى إعادة صياغتها، من غير أن تبلغ بنا الجرأة إلى ولوج عتبة تجربة التفلسف، بما هو عتبة الإبداع الفلسفي؟
ربما تكمن علة هذا الأمر -في منظوري الشخصي- في ما أسميه (حجاب التجربة). فما معنى (حجاب التجربة)؟
يعبر (حجاب التجربة) عن وضعيتي التالية، بما هي وضعية-مشكلة، كوني إنساناً ينتمي إلى جماعة الإنسانية وإلى أفقها الفكري وإلى تراثها العقلي الحالي، والذي أعي صيرورته عموماً أو أعي جزءاً من تجلياته في صيغ تجارب فلسفية بعينها، غير أني على الرغم من كل هذا التفاعل، لا أجرؤ على التفكير، بل على التفلسف. وضعيتي الحالية هي وضعية المنفعل الذي أقصى ما يفكر فيه، إنما هو ما تم التفكير فيه سلفاً، ومن ثمة فأنا مازلت بعد مفصولاً عن قدرتي على التفكير بما هو شكل جديد لتجربتي الروحية. حجاب التجربة يقلص قوتي على التفكير، فلا يجعل مني ككائن لم يفكر بعد سوى ذلك الباحث عن موضع لا يحقق سوى مهارتي في استقبال المفاهيم الفلسفية، دون أن أتمكن من تلمس طريقي نحو التجربة، نحو الفعل الذي ينتشل قوتي من نمط انفعالها أو تأثرها السلبي، ويفعل قدرتها على تجريب نمطها الفلسفي، بما هو نمط غير مسبوق من الإبداع.
إذن (حجاب التجربة) هو ما يعبر عن موقف اللاتفلسف أو العجز عن التجربة الفلسفية، ثمة شيء ما يحول دون ولوج التجربة، يجعلني لا أقف سوى عند حدودها العازلة، وهو شيء يشبه إلى حد ما (حجاب التنوير) بما هو اكتفاء بما اكتسبته فقط من تعلُّم الأفكار الفلسفية، من غير أن أتمكن من تفعيل ما اكتسبته من موارد فلسفية في حل المشكلات التي ما تفتأ تتجدد باستمرار، أي المشكلات التي تضعني مباشرة أمام محك التجربة. وضعيتي الحالية هي وضعية قصور فكري، فأنا لم أجرؤ بعد على التفكير.
معنى ذلك أن التجربة الفلسفية تبدأ من حيث أتجاوز لحظة القصور، فأغدو راشداً يتفلسف. يتعلق الأمر بتحويل ضروري وجريء لسيرورة تعلم الفلسفة، يقتضي الدخول في مغامرة التفاعل مع الموارد الفلسفية، من أجل توظيفها باتجاه حل مشكلات عالم العيش، بحيث يغدو المعيش ذاته موضوع تجربة فلسفية.
إذن فالمتفلسف هو من ينطلق من (المعيش) اللافلسفي، فيتناول هذا الوجود باعتباره موضوعاً للتفلسف، فتصير الفلسفة اختباراً لما يعيشه انطلاقاً من اليومي. غير أنه وهو يحيل هذا الاختبار إلى تجربة فريدة للتفكر، فإنه يدشن لأسلوب جديد في أفق الفلسفة. وهكذا فالتجربة كما يقول بلانشو بصدد باتاي، هي التفكير في ذاك الذي لا يفكر فيه. (الفكر يفكر أكثر مما يستطيع التفكير، في تأكيد يؤكد أكثر مما يمكن تأكيده، هذا الأكثر هو التجربة التي لا تؤكد إلا بزيادة التأكيد، والتي تؤكد، في هذا الفائض، دون شيء يتوكد، وبالنهاية لا تؤكد شيئاً، إنها تأكيد ينجو فيه كل شيء، وينجو هو نفسه من الوحدة. حتى إن هذا هو ما في وسعنا إعلانه بشأنها: إنها لا تُوحِّد ولا توَحَّدُ، ومن هنا تبدو أنها تؤدِّي بالأحرى من جهة المتعدد. وبفضل ما يمسه جورج باتاي (الحظ): كما لو أنه لتأديتها، كان لابد ليس فقط من محاولة تسليم الفكر للمصادفة، بل من تسليم أمرنا للفكر وحده الذي يرسل أيضاً، في عالم مُوحَّد مبدئياً ومجرد من كل مصادفة، ضربة نَرد مفكراً بالطريقة التأكيدية الوحيدة على مستوى التأكيد الصرف: تأكيد التجربة الداخلية).
ولذلك يسمي باطاي التجربة بسفر نحو حدود إمكانات الإنسان. بإمكان أي امرئ أن لا يقوم بهذا السفر غير أنه في حال قيامه به، فذاك يفترض نَفيْ السُّلط، القيم الموجودة التي تحد من الممكن، ومن حيث إن التجربة نفي لقيم ولِسلط أخرى، فإن لها وجود توكيدي يصبح هو ذاته القيمة والسلطة. يتطلب الأمر نوعاً من الجرأة الضرورية التي تقتضي مقاومة ما نسميه (حجاب التفلسف) الذي يحول بين الإنسان وإمكاناته اللامحدودة في التفكير. ومن ثمة فالتجربة كما يقول بلانشو هي (هذه الضرورة، فهي غير موجودة إلا كضرورة، وبصفتها هذه لا تعد أبداً ناجزة، بما أن أي ذكرى لا تستطيع تأكيدها، وبما أنها تتجاوز كل ذاكرة، وبما أن النسيان هو وحده على مستواها، النسيان الهائل الذي يحمله الكلام).
كما تجيب التجربة الجوانية كما يقول باطاي عن (الضرورة التي أوجد فيها -الوجود الإنساني بمَعية أناي- بوضع كل شيء موضع تساؤل من غير هوادة. وهذه الضرورة لها دورها على الرغم من العقائد الدينية، غير أن لها نتائج أكثر شمولية من تلك العقائد. تضع الفرضيات القبلية الدوغمائية حدوداً للتجربة: فالذي يَعْلم سَلفاً لا يمكنه الذهاب إلى ما وراء الأفق المعلوم).
ما نتوخاه هو أن تقود التجربة نحو ما تمضي إليه، وليس نحو هدف معطى سلفاً، أي أنها لا تقود نحو أي مأوى بل إلى موضع التيه، واللامعنى. فمبدأ هذه التجربة هو اللا-معرفة الذي تولد فيه وتدوم.
يمكننا أن نؤول انطلاقاً من (باطاي) المعرفة المعطاة سلفاً بأنها عائق نحو التفلسف بما هو التجربة ذاتها، هذه المعرفة هي التي تضع (حجاب التفكير) فيما يمكن أن يفكر فيه، ومن ثمة فالتفلسف مغامرة تقتضي نسيان المعرفة الجاهزة بشكل قبليْ من أجل اختيار إمكانياتنا الفريدة في التفكير، فلا يمكننا أن نجرب الفكر، ونحن نقف عند حدود ما أنتجته أنساق المعرفة التي تشكل أفقاً غدا مهيمناً على عقولنا. فالتجربة بما هي تفلسف تبدأ من حيث تُحفزنا اللامعرفة على اختبار إمكانية ما لم نفكر فيه بعد بوصفه حداً لم يَتعين بعد في المعرفة، حيث يولد تفكير جديد، وحيث ينتصب الفكر بوصفه موضع التجربة الذي يدعونا إلى اللحاق به كإمكانية وحيدة قوتنا من نسيج المعرفة المعطاة لنا والتي نستكين لها ولإنجازاتها ولكنها تصيرنا مسلوبي القدرة على استئناف طريق الفكر اللامتناهي. ذلك لأن المعرفة مَهْما انكشفت معالمها تظل هي علامة لا تشير إلى حد مكشوف، فهو ما يتعذر عن الحد، بوصفه لا محدوداً ولا متناهياً في ذات الوقت، أما الجانب المنكشف فيه فهو ليس إلا معرفة، وما لا ينكشف هو الفكر بوصفه موضوع التجربة اللامتناهية. ومن ثمة نستطيع أن نقول بعبارة هيدغرية: لَمْ نفكر بعد. أي أن إمكانات الفكر تظل دائماً غير قابلة للاستنفاذ، بما هي إمكاناتنا وهي غير مطابقة لهدف أو غاية، وما هو متوار في الفكر محجوب عنا ما يفتأ ينادي إمكانيتنا في تجريب قدرتنا على أن نفكر انطلاقاً من صيغة تشكلنا في الوجود باعتبارنا أحوالاً وكيفيات للوجود. وبما أننا لسنا مجرد ماهيات، بل أنماط، فإننا بوصفنا كذلك نعيش في التجربة، ونعيشها بما هي توجه نحو ما يجب التفكير فيه، وما يجب التفكير به هو الذي يمنح كينونتنا بعد المستقبل والذي نمنحه بدورنا بعد الحاضر، بما أن تجربتنا هي التي قادته باتجاهنا. فنحن لن نغدو متفلسفين حقاً إلا بقدر ما نتمكن من تجربة ما يجب التفكير فيه أي هذا الذي بإمكاننا اقتطاعه من سَديم الفكر اللامتناهي، هذا الذي يمنح لتجربتنا بعد التأسيس لأنماط متجددة في الفكر.
إذن فهل سنستعيد تجربة الفكر التي من شأنها أن توقظ نمط الفكر في كينونتنا؟ أم أننا سنظل مجرد أنماط لتجربة الرأي أو الدوكسا التي لا تخلق منا سوى موجودات تدعي أنها كائنات مفكرة في حين أنها ليست سوى كائنات (منفعلة) بالرأي ومألوف الاعتقاد؟
الممارسة الفلسفية
ينفلت السؤال الفلسفي إذن من ربقة اليقينية، ليؤسس وجوداً ملتبساً بهوية التأجيل، إذ يعثر على اعتباراته في مسافات الصمت والبوح المتعثر، وفي الفجوات الخطابية المسيجة بالشك والريبة والتوجس، وحيث إن العقل العربي تلقيني فهو لم يعثر على لحظته الفلسفية حسب البعض، أو أنه كاد يعثر عليها ثم فقدها بفعل انتكاسات وانهزامات وتاريخ من القمع الممارس، فالممارسة الفلسفية بماهي مفاعيل نيابية لا تتحرر من داء المطابقة ومن الاستعارة المفاهيمية، لكن ذلك لا يمنع التعين الفلسفي من لواحقه، فملفوظ (العربية) وإن كان بحمولة إيديولوجية إلا أنها تنطق بوعي فلسفي مغاير يحاول أن يتموضع ضمن مفهومية قد أحدثت قطيعة معرفية من خلال القتل الرمزي للمنجز الفلسفي الغربي.
وأما الحديث عن نخبوية الفلسفة فقد تعزز من العداء المنصوب لها، وحيث إن الإلغاز يهدد سلطة المخاطب ويزعزع يقينياته ويشكك في مسلماته، فهو يصدمه بالمغايرة وبإعادة قراءة الراهن وفق تأويلية منفتحة ومتعددة، بعيداً عن التفسيرات الأحادية أو الخطابات الاعتيادية، وفي تعاليه يبني إقصائيته لدى عموم الناس ولدى شريحة كبيرة من المثقفين أيضاً.
تقف الفلسفة اليوم في زمن البعديات أمام رهان كبير، خصوصاً وأن مهمتها الهدم وإثارة القلق وليس تشييد الأنساق، فبقدر ماتشتكي من التحولات الرقمية الجديدة وتتكلم عن موت الفلسفة، فإنها مطالبة بتحرير نفسها من سلطة النموذج وتجديد خطاباتها وفق متلازمة الاختفاء/الابتلاع، إذ ستجد نفسها أمام سطوح وثنيات تحتفي باللامعنى وتقذف بالعالم بعيداً عن ذاته، عالم متفردن يحتفي بمركزية الذات رغم أنه ينفيها في نفس الوقت، والتي ستتسمى بمسمى المتلقي الرقمي الذي يحتاج إلى قاموس مفاهيمي فلسفي متجدد مواكب لهذا التسارع التكنولوجي، ومستوعب لتفاصيله وللإشكاليات المتعلقة به، وهو ما يطرح أمامنا جوازية مسمى الفلسفة الرقمية التي تجابه ذاتاً افتراضية وعقلاً كمياً يقف على أرضية الاحتمال، حيث المعنى مغيب، وحيث الإنجازية تنتهك المعيارية، ورغم ذلك نجد أن العقل الفلسفي المعاصر تعالى على هذه التحولات، لكنه وجد نفسه رغماً عنه منخرطاً في السجالات المتعلقة بهذا العالم الجديد، ورغم أن الامتلاء الذي تشي به السطوح هو مايعد بنهاية الفلسفة ويقف كفزاعة أمامها، ورغم أن الرقميات تدخلنا في منفى اعتباري وتقوض الهويات السردية الفلسفية، وتعد بنسيان الكينونة أمام شاشة تتلقف أحزاننا لتحولها إلى هامش حكائي، إلا أن الفيلسوف المعاصر ينخرط في هذه الاحتمالية عبر نزوله من برجه العاجي وإسهامه في خارطة النقاش الرقمي الفلسفي المعاصر بشكل إلزامي.