مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

نبض الجبال

بومة اتخذت مكانها على رأس شجرة، ترتل آخر سيمفونيات الوجع قبل أن تدركها الشمس.
هجم الفجر.
كان جدي عند جذع التوتة يعول، تصلني زفراته متقطعة كفأفأة صبي، كقافية وجع.
البطات الثلاث يسبحن في بركة جوع، ولا طعام. قال جدي: (لستن أفضل من شجرة التوت.. متن إن شئتن أو ارحلن عني).
ما الذي حدث؟
احمر الجبل ولا خضرة..
كنت عند باب الحوش، هل كان علي أن أبكي؟ لست عشتار تسترد تموزها الأسير في العالم السفلي بعد أيام من البكاء والعويل وترتيل المراثي الحزينة. ولكنني ألبست شجرة التوت فستاناً أحمر، كعروس تركية قديمة، ورحت أعد طقس الحناء. رأيت نسوة الجبل يطفن بها مرتلات أغانٍ حزينة. كانت التوتة العروس محجوبة الوجه في حياء. والنسوة يرققن الصوت بالغناء الدافئ فيهمسن حيناً ويرفعنه أحياناً فيصير عويلاً متصلاً. يدرن حولها في انسياب يهيئن لها فضاء للبكاء فلا تبكي. فيعاودن الكرة. ينوعن النغمة فتغدو نسمة حزينة تبكي الحيطان. والتوتة العروس صامتة في خشوع كأنها في صلاة أبدية ولا دمعة.
يدرن ويدرن لساعات، يغنين حتى ينتهي الغناء، والتوتة العروس بلا دمع.
فينسحبن من حولها.
باكيات..
نائحات..
***
تذكرت صديقتي سارة، قفزت إليها، وجدتها عند شجرة الزيتون. كانت أهدابها الطويلة تحجب عينيها الخضراوين، وكان الطريق إلى السوق ملتوياً مكشوفاً عارياً. بالأمس، لم يكن يُرى منه شيءٌ، والسنابل تغطي جانبيه والأشجار..
وكان الجبل حزيناً..
كان أجرد..
غير أنه كان جاثماً كعادته والبيوتات الصغيرة والأكواخ تغطي سفحه كالأسنان المتناثرة. تناقل سكانه أسطورة تقول إن الجبل كان في الأصل من الذهب الخالص، غير أن حزنه لوفاة ابنة آلهة الجمال حول المعدن النفيس إلى صخر. ولكنه ظل مع ذلك جميلاً، وهم ينتظرون عودتها كي يعود (جبل الذهب) إلى ما كان عليه.
كنت أمشي متثاقلاً كمن يجر صخراً. ختمت سارة على قلبي بحزن رموشها. قالت لي: (.............؟). فأجبتها: (.............)
لم تقل شيئاً.. ولكن أهدابها روت لي القصة بالتفصيل.
***
كانت صومعة الجامع تلوح من بعيد كالمزار الأزلي، عند الحائط الجنوبي وجدت جمعاً من الناس يتحدثون، لم يزل إمام الجامع مسبحاً، كانوا متحلقين حوله يستفتونه في أمر الجراد هل يجوز أكله؟
لم يشعروا بوجودي، انسللت متثاقل الخطو.
هل كان علي أن أبكي؟
كانت سارة، سارة صديقتي حزينة، دست يدها الصغيرة في راحتي ولكنها لم تقل شيئاً. كانت على شفتيها قبلة مؤجلة. وكانت وجنتاها بلا دم. أَوَتْ إلى صدري في صمت كراهبة. أسكنتني قصراً من الجليد للحظات. دقات قلبها ترقص الزوربا. تطلق يديها في الريح يميناً وشمالاً. خطوة إلى الأمام. الموسيقى متثاقلة. تحفر في القلب خنادق لفرح مكتوم.. وتنطلق. خطوة أخرى وانحناءة. والنغم.. يتسارع النغم، كنبض الوجود. يستبد بنا طرب موجوع. فأطير بها ونحتفل.
أرى غيلان يشيد سده لما يزل.
أرى (جبل الذهب) يشرب السحب والمطر.
يشتد وقع القيثارة المجنونة.. وأقدامنا تهتز.
تدوي تحتنا الأرض.. ترتجف، ترتد بين أرجلنا..
لم تكن تلك رقصتنا الأولى.. كنا صغاراً نصعد الجبل لنرقص على القمة عند كل وجع.. لم نكن نعرف ريحانة ولا أبا هريرة، ولكن قلت لها مرة: (سأعلمك المشي على النار)..
***
قبل شهر كان جبل الذهب هادئاً.. صياح آخر الديكة الكسلى يرتفع بين حين وآخر من أنحاء السفح حيث القرية والبيوت الصغيرة المتناثرة هنا وهناك. دبت الحياة منذ ساعات الفجر الأولى. وبين الفينة والأخرى، تسمع همهمة منطلقة في الظلام وتأتيك أصوات النعال الرثة وصهيل البغال ونهيق بعض الحمير وصرير عربة. تصعد الهمهمات إلى الجبل كأنها الأشباح. وعند القمة تُشعَل النيران ويُصنع الشايُ، لتعود العربات مساء محملة بالحلفاء والحشائش والحطب حزماً على الظهور وأحمالاً على ظهور البغال والحمير..
وكان (جبل الذهب) يبتسم..
ينظر إلى الشمس في كبرياء كعادته ويتأمل القرية النائمة عند أقدامه كالساجدة عند الأولياء والصالحين. وما إن انتصف النهار وهمّ الناس بالجلوس للأكل والشاي والقيلولة، حتى تبدل الجو وتحركت ريح وشوهد في الأفق اصفرار. وسُمعت أصوات استغاثة قادمة من بعيد. ظن الناس أنها عاصفة مفاجئة. سقطت الفؤوس من الأيدي الواجفة وعمت الحيرة القلوب واضطرب الرجال فتعثر بعضهم ببعض. وسرعان ما انسابوا يعدون نحو القرية في سباق محموم.
تعالى الصياح في القرية: (الجراد.. الجراد).. كانت هناك امرأة تنوح وتصرخ: (صابة الزيتون انتهت.. الزرع دمر..). كانت تهتز وتنتفض وتستغيث.
وصلت أولى أسراب الجراد تستكشف المكان ورحلت بعد برهة من الزمن عائدة من حيث أتت. ثم تتالت الأسراب فاحمر الجو، وتعالى الصياح، وعمت الجلبة، وانخرط كثيرون في البكاء، ووقف آخرون بلا حيلة.
لم تكن هذه المرة الأولى.. ولكنها كانت مفاجئة هذه المرة.
أخذ كثيرون يدقون أواني حديدية متنقلين بين السنابل والأشجار يبعدون الجراد.. ولكن الأسراب توافدت بغزارة، فغطى الجراد الأرض، وحط على الأغصان وأخذت أسنانه الحادة تقضم الأخضر واليابس بكل قسوة.
لف الظلام القرية. خرج الأمر عن السيطرة. ليلتها لم يُوقَد في القرية نور. لم يذق أحد طعاماً.
غرق الجبل في حزن أخرس ثقيل.
وفي باحة البيت، كان جدي يذب الجراد عن التوتة. في تلك الليلة لم يُغمض له جفن. بات يئن، ومن حين لآخر يسمع حشحشة الجراد يأكل أوراق التوتة وأغصانها، فيهجم عليه يرميه بالتراب عساه يطير، ولكنه يعاند ويأبى الرحيل. فيعود جدي ليسند ظهره إلى الحائط باكياً.
كانت قرية (جبل الذهب) مأدبة فاخرة لم يحلم بها الجراد يوماً. سنابل أبريل طرية خضراء لما تزل. والزيتون تكاد أزهاره تتفتح. واللوز بارز الحب والخوخ والتفاح والحشائش.
وكنت بلا إحساس.
***
قالت لي سارة يوماً: (لماذا.............؟)
كنا نقضي اليوم في الوادي معاً نرعى الأغنام. وفي المساءات الحزينة، عند المفترق تترك يدي قائلة: (لماذا لا تحزن؟). كنت في كل مرة أهم بتقبيلها، ولكني أقول لها: (لا تحولي حزنك إلى عادة)..
جلست قبالة جدي أتأمله في صمت فأدركت لأول مرة أن بينه وبين التوتة أكثر من شبه.
هامته الفارعة هامتها.
عيناه الخضراوان أوراقها.
استواء ظهره جذعها القائم.
تجاعيد جبينه أخاديدها.
أصابعه الطويلة الخشنة أغصانها.
لم أكلمه. انثال علي حزن ثقيل كالرصاص. كنت أعلم أن الجراد إذا هجم فلا راد له. لا تراب ولا صياح. كدت أبكي، ولكن الشمس البازغة لتوها أيقظتني. فانتبهت إلى التوتة. كانت جرداء. كانت عارية كتمثال نحاسي. أتى الجراد على أوراقها وأغصانها ودمر تجاعيدها. ثم غادر في آخر الليل ولم تبق إلا فضلاته تغطي الأرض.
وقف جدي إلى التوتة يتأملها، فرأى جرادة طاب بها المقام فتخلفت عن سربها. أخذها بخفة. قلبها في تأنٍ. ثم التفت إلي قائلاً: (لم أر قط جراداً أقطع للأخضر واليابس من هذا). كان جدي كالمعتوه. يطوف بشجرة التوت فيتأملها حيناً وينظر إلى الجرادة بين يديه ثم يقفز إلي: (انظر الشر في عينيها. كأن بينها وبين الحياة ثأراً قديماً. انظر الحمرة الجحيمية على جلدها. تأمل أطراف أقدامها كيف احتدت كمنشار. وانظر جناحيها السوداوين. هذا الجراد يا ولدي أكثر الحشرات فتكاً بالأشجار).
ثم يقترب من جذع التوتة قائلاً في تعجب: (ليست هذه أول مرة يصيبنا فيها الجراد، ولكن هذا.. كان الأخطر على الإطلاق! انظر جذع التوتة. لم يكتف بأكل القشرة بل ذهبت أسنانه بعيداً إلى قلب الشجرة المسكينة).
احترقت قرية (جبل الذهب) بأسنان الجراد واختفت خضرتها.
كان جدي يعول عند جذع التوتة. أسندت ظهري إلى حائط الحوش وسألت نفسي: هل كان علي أن أبكي؟
***
كان الناس كالسكارى.
خرج المصلون من الجامع وأخذوا يخوضون مع الإمام في أمر الجراد. انسللت بهدوء. مررت بالمدرسة. كانت خالية إلا من بعض الجرادات التي أعياها الرحيل. أما أشجار حديقتها فلا حياة. دُمر العلم واتسخ. أما مسجل المقهى فقد صمت منذ ذلك اليوم. وجدت نفراً من شباب جبل الذهب يحتسون الشاي ويضحكون من عين أحدهم وقد تورمت لما أصابته جرادة، فهاجمتني رغبة في التبول فجأة! انطلقت إلى دورة المياه، هناك راودتني أفكار مجنونة. رأيتني أذبح كل أهل القرية. أشنق العمدة، وأطير بصديقتي سارة لأقبلها عند قمة الجبل. غير أنني تماسكت.
ولما كنت عائداً إلى البيت مساء. رأيت أهل القرية، وقد دمرت محاصيلهم، جائعين. رأيتهم يغادرون الجبل ليشحذوا.
رأيت أبواب قاعات المدرسة موصدة.
بأم عيني شاهدت اليتامى في الأسواق يتسولون.
شاهدت مئذنة الجامع خرساء.
رأيت الفئران تهجم على البيوت والدكاكين تستجدي طعاماً ورأيت..
ورأيت العصافير تهجر (جبل الذهب)!
كانت الدنيا غائمة من حولي.. لم أنتبه إلا وصوت سارة يقرع أذني: (لماذا لا تحزن؟).
فانفجرت في وجهها: (لا حاجة لنا بالحزن!). فطأطأت رأسها في خجل وقد فاجأتها. فتمالكت نفسي وأردفت بصوت خافت: (هذه الأرض في حاجة إلى غضب)..
فقالت: (فلنغضب معاً إذن.. وإلا عاد إلينا الجراد غداً أو بعد غد).
***
بدأت القرية تستعيد أنفاسها في الأيام التالية، ودبت الحياة من جديد متباطئة متثاقلة، وتناسى الناس أمر الجراد فامتلأتُ حقداً. قلت لسارة: (لقد قرأت دراسة عن الجراد تقول إن جهازه التنفسي هو الأضعف، ما رأيك لو جعلنا مداخن عملاقة تحيط بالقرية تضمها إلى الجبل وتمنع الجراد من الوصول إلينا؟).
فكرت قليلاً ثم قالت: (وماذا لو تزامن وصول الجراد مع الريح فتذهب بالدخان بعيداً؟ ثم من أين لك بكميات هائلة من الأخشاب والبلاستيك؟).
كنت محتاراً كدت أسألها: (هل كان علي أن أبكي؟). ولكن راودتني فكرة.. فقلت لها: (قومي نصنعْ بيننا وبين الجراد حاجزاً).
***
عند مدخل القرية قبالة الجبل وعلى يمينه وشماله أطلقنا أعمدة حديدية ضخمة مسافرة في الفضاء البعيد، ووصلنا بينها بشباك دقيقة تسمح بمرور الريح. كان الناس يضحكون مني ومن سارة. قال بعضهم: (هذا جيل مجنون!). ولكننا واصلنا العمل لمدة شهرين كاملين. ولما رؤوا إصرارنا بدؤوا يتقاطرون علينا منذ بداية الأسبوع الثاني.. صنع بعضهم الشباك، وحفر آخرون الحفر للأعمدة، وجاء نسوةٌ بالطعام وصُنع الشاي.
في آخر يوم، كانت القرية معزولة تماماً عن الجراد. قالت لي سارة: (لن تأتِيَنَا العصافير بعد اليوم). فقلت لها: (العصافير تطير عالياً، ولا تعترف بالحواجز).
لما عدنا في المساء، كنا عند المفترق. قالت لي: (لماذا لا تحزن؟). ابتسمت لها قائلاً: (أقلعي عن أحزانك يا سارة).
***
في ساحة الحوش الصغير كان جدي يترقبني. ولما رآني قفز إلي في خفة لم أعهدها فيه منذ زمن. ثم قادني إلى شجرة التوت التي أفرغ تحت جذعها ماء الماجل كله. كان غصن من أغصانها قد انفجر أوراقاً. ولكنني لم أكن أعلم أنها تتزين لتحتفل في غيابي.
بعد أسبوع من قيام الحاجز. جاءنا موكب ضخم من السيارات ترجلت منها خوذات وجزمات ثقيلة ونظارات سوداء.. كان أهل جبل الذهب مشدوهين. ظن بعضهم أن مساعدات وصلت القرية. غير أن الجزمة قالت: (أزيلوا الحاجز. اتفقنا مع منظمة الأغذية والزراعة ووكالة............. ووكالة............. وديوان............ على خطة لمكافحة الجراد).
لا أتذكر كيف ارتمت شابة خضراء العينين أمام إحدى النظارات فبصقت عليها. فانهالت عليها الجزمات ضرباً وهجم علينا الرصاص من كل جانب. أُصبت في فخذي وأنا أرفع تلك الفتاة وصدرها مخضب بالدماء: (سارة.. ما الذي جاء بك؟ كيف وصلت؟ من أبلغك بقدومهم؟). ولكن لم يكن لها وقت للإجابة قالت: (لا تهدموا الحاجز!).
شعرت بالمرارة.
اندلع في قلبي حريق هائل.
كاد دماغي ينفجر.
جررت قدمي المشلولة وارتميت على بدلة سوداء فأوسعتها ضرباً. مد إلي جدي سكينه فذبحت البدلة ذبحاً.
لقد ذبحت الرصاصة التي أصابتك يا سارة.
***
... وها أنذا بعد كل هذا العمر وحيداً ولا يزال طيفك حياً في مخيلتي. بعد كل هذا العمر، لا تزالين تقفزين إلي بين الحين والحين لتسأليني: (لماذا لا تحزن؟). هو ذا قبرك لا يزال ناصع البياض. لم تغيره سنوات سجني الثلاثون ولم تحل بيننا الجدران لحظة. تخرجين إلي من القبر في فستانك الوردي وقدماك مخضبتان بالحناء لتسأليني باسمة: (لماذا لا تحزن؟). ولكني لن أراوغك هذه المرة.
لقد كنت أدخر حزني ليوم فراقك. انظري الحسون يحط على شاهدة قبرك. ارفعي رأسك لتري جبل الذهب وقد اخضر، والتوتة العروس تحتفل بلا مواعيد، والحاجزَ قائماً كجدار إسفلتي صلب، و(جبلَ الذهب) تستعد للاحتفال بعيد ميلاد جدي.. تصوري: عيد ميلاده المئة!
كان صوت المؤذن يقرع أذني معلناً نهاية يوم للذكرى. وجلبة أطفال عائدين من المدرسة قد ملأت المقبرة ضجيجاً. تحلقوا حول جدي يعابثونه فلاحقهم بعكازه فنطوا هاربين. عاد إلي قائلاً: (لنرجع إلى البيت يا ولدي.. لا بد أن أسقي التوتة هذه الليلة).

ذو صلة