مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

صباح الخميس

أحدث نفسي وأنا أتثاءب: يا له من صباح جميل، وزاده جمالاً كونه صباح يوم خميس.. اليوم سأعيش ساعة صفاء؛ بل ساعات، لم أحظ بمثلها طوال أيام مضت.. منذ متى ياترى لم أقض يومي وحيداً.. أنام لوحدي منذ سنوات وزوجتي تنام مع أبنائي لكني لست وحيداً.. وها هو اليوم الذي خلا لي البيت.. فلا أريد أن أفكر كثيراً.. أريد أن أستغل كل دقيقة في هذا اليوم لأعيش مع نفسي، وأسمع صوت غنائي دون أن تقاطعني زوجتي متهكمة بصوتي تارة أو تتعذر عند إيقافي بأني غيرت اللحن فأطبق فمي طوال اليوم، وأظل أتمتم بالألحان التي علقت بذاكرتي بصوت منخفض.. لقد سافر الجميع وأنا نائم قبل شروق الشمس في رحلة طويلة لحضور حفل زفاف.. ها أنا أجلس لوحدي على كرسيي الوفير في بلكونتي التي اهتممت بكل تفاصيلها.. أرتشف القهوة التي صنعتها بيدي قبل قليل على نار هادئة.. أنظر إلى حديقة منزلي التي زرعت بها ما ندر من النباتات والأزهار ووزعتها بطريقة تسر الناظرين.. أتأمل ذلك الطائر الذي يقف أمامي على غصن قريب جداً..
انتقل بقفزة سريعة مقترباً مني.. وبدأ يغرد بصوت جميل لم أطرب سابقاً مثلما طربت لهذا الصوت.. سيمفونية معقدة من النغمات والطبقات.. ارتفاع وانخفاض.. صفير متكرر تارة، وصوت متصل تارة.. بتداخلها أدخلتني في عالم الخيال والتأمل.. لا أدري كم أسرني هذا الطائر من الوقت.
طار فجأة وكأنه أيقظني برفرفة جناحيه من غفوة تسبب بها.. تذكرت قهوتي وأردت أن أرتشف منها رشفة بينما مازال طعم الألحان يتقلب في مخيلتي.. تناولت فنجاني بينما عينيّ تنظران للغصن فإذا بقهوتي باردة.. أدركت حينها أن الوقت الذي قضيته في طربي لذلك الطائر كان طويلاً.. حملت الفنجان متجهاً نحو المطبخ لتجديد قهوتي.. وإذا بذاكرتي تلح علي بترديد لحن طالما عشقته.. لم أتردد.. غنيت كما لم أغنِّ من قبل.. لأول مرة أرفع صوتي بالغناء هكذا في منزلي دون خشية.. واصلت غنائي وأتمايل طرباً لمعزوفتي.. ألوح بيدي تارة وأحرك رأسي تارة أخرى.. أحسست بسعادة فقدتها منذ زمن.
(أنساك.. دا كلام...) غنيتها بلا توقف وبكل إحساس.. تقاطرت الدمعات من عيني لمجرد ترديد هذه الأغنية لأم كلثوم.. خانتني الذاكرة في استذكار كلمات الأغنية.. فقمت من مكاني متجهاً نحو الصالون.. أخذت إسطوانة أم كلثوم.. مسحت الغبار الذي تراكم عليها بطرف بجامتي.. أدخلتها في جهاز الغرامافون وشغلت الأسطوانة ورفعت الصوت لأعلى درجة.
ذهبت إلى كرسيي وفنجان قهوتي على البلكونة.. تدفق علي سيل من الذكريات ومشاعر قد دفنت منذ زمن..
كنت طائراً في ذكرياتي بلا حدود.. تارة تدمع عيناي لذكريات مضت، وتارة أخرى أبتسم سعادة لشعوري وإحساسي بجمال صوتي وإتقاني للحن..
كم أتمنى لو تسمعني زوجتي الآن وأنا في لحظة تجلٍّ.. متجرداً من كل مشاعر الخوف من تعليقاتها.. من المؤكد أنها ستغير رأيها وستعشق صوتي أكثر وستطالبني بالغناء دائماً..
وبينما أنا مبحر في بحر الألحان متعجباً من قدراتي مزهواً بنفسي وأرتشف آخر رمق من فنجاني إذا بتلك اليد تمسك بكتفي
نازعة قلبي من مكانه خوفاً أفقدني الحركة، ومما زاد رعبي أكثر صوت زوجتي بسؤالها: (ما هذا الإزعاج؟! لم أنم بسببك!)
سألتها دون أن أنظر إليها بعد أن هدأت قليلاً:
- صباح الخير.. أليس اليوم هو الخميس؟
أجابت بسخرية لاذعة: أمجنون أنت؟! اليوم هو الأربعاء!
اتَّجَهَتْ نحو الداخل بعدما أَطْفَأَتْ إسطوانتي وقبلها ابتسامتي.

ذو صلة