مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

التين والبلابل وعبقرية الشعر

كنت أتساءل هل دائماً تتلطى خلف المقطوعة الشعرية قصة معرفية مثيرة؟ وأقول بيني وبين نفسي: ربما. لكن سرعان ما نقلني هذا التساؤل إلى آخر غيره في السياق ذاته بصيغة مختلفة: هل في الشعر ما يخص الذهني بقدر أكبر منه ما يخص العاطفي؟ أيضاً ربما، لكن المسألة على الأرجح نسبية. وهي كذلك بالنسبة لي. وأسئلة مثل هذه تبدو للوهلة الأولى كبيرة وثقيلة، لكن سرعان ما تتكشف ضرورتها حال اعتبارها عتبة، ترفع المهتم إلى مستوى أرقى من النظر والكلام.
يحدث أن تقرأ مقطوعة من الشعر فتجد نفسك أمام شاعر غير عادي، بل أمام شاعر مفلق ومثقف، وربما أكثر أمام شاعر بل موسوعي المعرفة، ويمتلك قدراً من العبقرية في توظيف ما يقع عليه النظر وتلمسه اليدان.
ترى، ما الذي أحدثه بيت من الشعر، بيت واحد فقط؟
نقرأ باللهجة العامية العراقية الدافئة، هذا البيت من مقطوعة للشاعر مظفر النواب: (مو حزن.. لكن حزين! مثل بلبل قعد متأخر لقى البستان كلها بلاية تين). ليقفز إلى الذهن هنا تساؤل جديد: ما التين ما البلابل واستيقاظها المتأخر، ما العلاقة بين هذه المفردات كلها؟
والتين ينقلك عبر اللون والطعم إلى بساتينه الخصبة في القرى الجبلية، وتحديداً في قرية (الحلقي) الإزيدية، تلك المتحصنة في أعلى جبل سنجار في الشمال العراقي، هي قرية شغفت بالندى منذ الأزل، تغتسل به كل يوم على مدى الفصول، بمنأى عن سكان الأراضي المسطحة في الأسفل، فأولئك يصعب عليهم التقاط ملامح القرى السحابية كقرية الحلقي وتحديدها خاصة في الفجر، أما في الليل، حين ينأى عنها القمر، فتبدو المسألة شبه مستحيلة، حتى لو دفع الفضول الرائي ليدنو من أقدام الجبل المهيب، حتى لو فإنه لن ينعم.
في الأعالى كهذه التي في قمة جبل سنجار، لا يضاهي بساتين التين في المرتفعات الباردة العصية، سوى غواية الرمان الناضج، والامتداد الأرجواني الآسر لحقول السماق. هنا، وحينما تغمرك إبداعات الخالق العظيم، يكون التوضؤ ضرورة لطهارة البصر، ففي بساتين التين والرمان وحقول السماق، والقدود الممشوقة، والوجوه الجميلة التي أكسبتها برودة النسمات في الأعالي نضارة دائمة، شيءٌ من رائحة الجنة.
والبلابل وفقاً لابن منظور في لسان العرب، هي من حيث لونها وأحجامها أنواع، وتعود كلها إلى سلالة الهدهديات، لكن أحدها الذي أمكن تحديده بدقة، وكان الوحيد الذي أغرم بالتين دون سواه من الثمر، كان طائر (القبج)، وينتمي إلى فصيلة البلابل من الهدهديات، الطائر الذي ظل محافظاً على عادته المألوفة منذ فجر الزراعة، التي نقلت البشرية إلى الخضرة والاستقرار.
فعادة طائر القبج مع التين يبدؤها بنقرة خفيفة على قشرتها ليحدث ثقباً فيها على قد منقاره، ثم يطير عنها إلى أقرب ماء، فيأتي بقطرات منه يستودعها قلبها، ويسد الفتحة بالطين ليضمن عدم خروجه، ثم ينتظر قسماً من النهار، ثم الليل بطوله حتى انبلاج الفجر الجديد، فيطير ولهاً إلى حيث غبوقه، وقد تخمر بمعسول التين فيشربه، وبعدما يسري طعم (القند) في جسده اللدن، تنفرج اساريره، وتشتد حباله الصوتية، فيشدو بأعذب الألحان على مقامات الجنان، فيطرب البساتين ومن فيها من كائنات.
دنيا ميخائيل تروي لنا في (وشم الطائر) أن الحلقيين (من قبيلة الحلقي الإزيدية) في تلك القرية القممية في جبل سنجار، التي يصعد إليها المطر في الشتاء، خلافاً للأراضي المسطحة في الأسفل حيث يتنزل عليها.. أنهم يحتفلون في كل عام بإشعال النار بأعداد مهولة من أقفاص العصافير، في رمزية دالة ومؤثرة تؤشر على أن الحرية بالنسبة له هي في أول سلم حياتهم، صنو الماء والهواء، بما في ذلك حرية الطيور على اختلاف أنواعها بلا استثناء، مع اهتمام زائد بطائر واحد من بينها، هو طائر القبج مدمن التين، مبهج الكائنات ومؤنس النهارات بالشدو الذي ما أن يبدأه حتى تدب الحياة في نفوسهم وبيوتهم وبساتينهم وأنعامهم، فتغريده غدا بالنسبة لهم أشبه ما يكون بإشارة لليقظة والحياة الضاجة بالنشاط والعمل، أو أشبه برنين جرس كبير في قيعان المحيطات، أو باحتكاك شهب في أروقة الكون القصية، سنى لمعها يخرج مصهور الحديد من الأرض، أو أشبه بنداء للصلاة من قلب الخليقة، يتردد صداه في المعابد فيعمرها، والثمر ينضجه، وحقول الحنطة الخضراء يلوحها فتصير يباساً يتشوق لمنجل حاصدٍ ولهان.
ومرت أزمان، وطائر القبج مدمن التين ذاك، لا يكف عن تطوير علاقته مع سكان الأعالي الذين شغفوا به وشغف بهم، إلى حد أنه قرر ذات يوم غارق في القدم، أن ينقل صفيره البلبلي إلى سكان المرتفعات، ليكون لغةً جديدةً إلى جانب لغتهم الأم، يستعينون بها للتواصل فيما بينهم متى كانت المسافات بعيدة، يخفق صوت الإنسان العادي في قطعها على نحو مفهوم، فمعلوم أن إشارات الصفير أكثر حدة من إشارات الصوت البشري، ولعل هذا ما يؤهلها لقطع مسافات أبعد، مع احتفاظها بمحتوى واضح يسهل فهمه على السامع في الطرف الآخر.
وإلى يومنا هذا، لا يزال سكان المرتفعات في القرى القممية لجبل سنجار، وجبليو التبت، ومعهم سكان جبال العالم، يتفاهمون مع بعضهم بعضاً عبر الصفير وتقاسيمه الأشبه بالموسيقى، محاكاة لمعلمهم الأول طائر القبج ذلك العاشق الصداح، فعبر الممارسة والزمن، نجح سكان الأعالي في الوصول إلى تثبيت معانٍ هي بمثابة (شيفرات) محددة تكون محتوى هذا الصفير، حفظوها عن ظهر قلب وتداولوها فيما بينهم، كلغة دلالية - إخبارية، يطيرون عبرها إشارات مختصرة لأحداث تشكل بمجملها محور حياتهم اليومية الجبلية: فللحرائق الطارئة صفير معين، وللدعوة إلى وليمة عشاء صفيرها المميز، وللمشاجرات على قلتها صفيرها المحدد، ولإقامة حفلات الخطوبة والأعراس صفيرها الخاص، وحتى الدعوة إلى اجتماع طارئ لإنقاذ القمر من فم الحوت قبل ابتلاعه (في ليالي الخسوف) لها صفيرها المتوتر، وتطول قائمة التشفيرات للصفير المتداول لدى الحلقيين أولئك عشاق الطبيعة والحياة، فهي تحوي أدق التفاصيل لشؤونهم اليومية بما فيها رعي الأغنام، وغسل الملابس والسجاد عند الينبوع الشرقي لقمة الجبل.
وهكذا يمكن أن نفهم تجليات الشاعر في شعره، حينما يكون على علاقة بزيت المعرفة فيضيء علينا ولنا دروباً بحثية عديدة، ويوسع مدراكنا ويفتح عيوننا على مرئيات النور وما بعده. فللشاعر إجلاله طالما أفسح لنا في المجال لمتعة استثنائية لا توجد سوى في الشعر مضافاً إليها دهشة المعرفة. لنردد معه بعد أن علمنا المراد: (مو حزن.. لا مو حزن، لكن أحبك من كنت يا اسمر جنين).

ذو صلة