مع كثرة احتكاك الغربيين بدول العالم أخذت الدراسة اللغوية في التقدم، ومع البعثات التبشيرية ساد البعث اللغوي، وإحياء الدراسة اللغوية والاهتمام بها، حتى ظهر علم اللغة الحديث في بداية القرن التاسع عشر (علم اللغة، د. محمود السعران طبعة دار المعارف سنة 1962 ص 358).
واستمرت مناشط البحث العلمي لنشأة اللغة على أساس بعيد عن الافتراض والحدس شأنها شأن البحوث العلمية القائمة على إظهار الحقائق ذات الوصف الدقيق.
لقد خصص العلماء حينئذ أنفسهم على سبيل التفرغ لدراسة كل فرع من فروع اللغة على حدة حتى يتقنوه، ويصلوا فيه إلى نتائج يكون لها المقومات الأساسية، فنهضت بذلك الدراسة اللغوية حيث اعتمدت على فروع استكملت بها تلك الدراسة وهي:
علـــــــــم الأصـــــــوات (الفوناتيك)، علم اللهجــــــات (الديـــاليكتولـــوجيــــا)، علـــــــم الدلالــــــة (السيمانتيك)، علم النفـــــــس اللغــــــــوي (السيكولوجية اللغوية)، علم الاجتماع اللغوي (السوسيولوجيا اللغوية).
أما بالنسبة للغتنا فإنها أسهمت في نهوض الأمة العربية والإسلامية وعكست رقي حضارتها من حيث كونها الوعاء الحافظ لتراثها، ولما كان لسان الأمة جزءاً من وطنيتها أصبح -والحال هذه- الفيصل العادل في تقييم واحترام الآخرين لها محلياً وقومياً وعالمياً، فلا غرو، أن تتنسم مركز الريادة بين لغات الأجانب التي ظلت ردحاً من الزمن تغفو في ظلام دامس وسبات عميق.
تعريف
لقد عرف علماؤنا القدامى اللغة بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم كما ورد على لسان ابن جني في الخصائص، فهي وضمن هذا التعريف تشمل تراثاً هائلاً من القواعد المعجمية والنحوية والصرفية والدلالية في مجالها المعياري.
أما علماء الاجتماع فقد عرفوها نظاماً من رموز ملفوظة عرفية يتعامل ويتعاون بواسطتها أعضاء المجموعة الاجتماعية المعينة.
إننا حينما نضم جميع التعريفات اللغوية إلى بعضها، إضافة إلى تاريخ الترجمة والتعريب عند الأسلاف يسهل السير في درب تقنيتها لاسيما وأن المصطلح العلمي اللغوي إبان القرن العشرين وما يليه أصبح مطواعاً بيدنا ينحو إلى منهج لغوي تطبيقي يستند بالأساس إلى تقنية معربة كالتي حفلت بها المناهج في أوروبا بعد نهضتها واستعملت الأجهزة العملية التي ساعدت الباحث في الوصول إلى مبتغاه في عصر اعتمد على الدرس العلمي التحليلي، المعتمد على الحقائق، وعلى هذا الأساس (فيمكن درس ظاهرة لغوية في لغة ما باستحضار العينات اللغوية وتحليلها والوقوف على القوانين التي تحكمها) (علم اللغة بين القديم والحديث، د. عبدالغفار حامد هلال، الطبعة الثانية سنة 1968، ص71).
إن بحثنا ينصب على مفهوم المصطلح اللغوي الذي يعد مفتاح العلوم التطبيقية ومجمع حقائقها المعرفية في عالم المعلوماتية.
(وليس من مسلك يتوسل به الإنسان إلى منطق العلم غير ألفاظه الاصطلاحية حتى لكأنها تقوم من كل علم مقام جهاز من الدوال ليست مدلولاته إلا محاور العلم ذاته ومضامين قدره من يقين المعارف وحقيق الأقوال). (المسدي (قاموس اللسانيات ص11).
إذاً لا مندوحة من استخدام المصطلحات فهي لغة العلم، وليس المصطلح عند العرب حديثاً فقد ظهر أمره على يد إمام النحو سيبويه الذي ضمنه أول منظومة متكاملة من المصطلحات ويكفينا الدراسات التي قام بها الخليل في (العين) وسيبويه في (الكتاب) وأبو علي الفارسي في كتبه، وتلميذه أبو الفتح عثمان بن جني الذي استطاع بعقله الفذ ودراسته العلمية أن يقيم عمد الدراسة العلمية اللغوية وأن يوطد أركان (علم اللغة) بدراسته للصوتيات، وسبق الأوروبيين بما وصل إليه من نتائج كأصوات اللين، ومقاييسها، التي سبق بها (دانيال جونز الإنجليزي) ومعرفته للفونيم ونظريته قبل هذا العالم الأوروبي (علم اللغة مرجع سابق ص54 - 55).
وللحقيقة فإننا لا ننكر أسبقية المصطلح العلمي التطبيقي عند علماء الغرب في حين ظل يراوح عندنا في دائرة ضيقة لفقرنا إلى الآلات الحديثة التي تمكن الغرب من الأخذ بناصيتها. يقول سوسير إن علم اللغة في الغرب لم يعد موضوع إنكار، فالبحوث العربية اليوم نظرية أو تطبيقية يعترف بها كبحوث أكاديمية لها أهميتها في ذاتها، وليس ثمة مهتم باللغة، ابتداء من القارئ العادي إلى المدرس إلى مهندس الاتصالات يمكنه أن يتجاهلها (سوسير رائد اللغة الحديث. د. محمد محسن عبدالعزيز، دار الفكر العربي، القاهرة ص 159).
إن قضية تعريب التقنية لم تعد إشكالية في التطبيق، فالتعريب حقيقة واقعة له تاريخه، والمصطلح هو الآخر ولو توافرت الإمكانات في عهده السحيق كما هو الحال اليوم لأصبحت لغتنا هي السابقة في عالم المعرفة التقني، ولتمكنا من ميكنة الحرف العربي وتصييره حرفاً ضوئياً في عالم النور، ولغتنا كما هو معروف تؤمن بالتطور من حيث كونها تؤثر وتتأثر. إن اللغة تتغير أو تتطور تحت تأثير كل القوى التي يمكن أن تؤثر في الألفاظ أو المعاني، فالتطور أمر لا محيد عنه، وليس ثمة لغة في العالم تستطيع أن تقاومه (سوسير ص160).
إن التطور عامل مهم في إثراء اللغة شريطة ألا يمس البنية التحتية للغة، ومن هذا فإني لا أتفق مع بعض الذين يرون عند معالجة الجانب اللغوي الآتي:
إهمال التشكيل كلياً في منظومة الكتابة العربية، إننا لا نرى ضرراً في تقنية اللفظة المعربة من تشكيلها وإهمال التشكيل قد يحدث فجوة بين منهج اللغة النظري ومنهجها التقني التطبيقي مع الأخذ بعين الاعتبار دقة الأجهزة الحاسوبية وحلها لكثير من الأمور المستعصية.
أما قولهم إعادة صياغة قواعد ومبادئ الصرف العربي، والذي يرتكز عليها علم الأصوات وعلم النحو وعلم المعجمات، فإني أرى أن إعادة الصياغة في شأن إلغاء الكثير من الأسس الثابتة في هذين الركنين الفاعلين في لغتنا، ففي النحو يحصل إرباك في السياق، وقد يؤدي إلى معنى مغاير لمتطلبات النص، وفي الصرف تحصل خلخلة في بناء الكلمة ومن تغيير في ميزانه الصرفي، ومن المعلوم أن العلاقة البيانية والدلالية ملازمتان لعلمي النحو والصرف.
تطوير المعجم العربي
أما بالنسبة إلى ترتيب وتحديث وتطوير المعجم العربي، وإعادة صياغته تبويباً ومضموناً، وكذلك إغناؤه بالكلمات الجديدة المعرب منها والدخيل والمستحدث، فإننا نرى أن الكثير من معجماتنا الحديثة سارت على نهج يتماشى والعلم المعجمي الحديث من حيث التبويب والمضمون.
وليس بعيداً عنا جهود المجامع اللغوية في رفد المعجمات قديمها وحديثها بالكلمات المعربة والدخيلة والمستحدثة بحيث أصبحت في تناول يد الباحث والدارس والطالب المبتدئ.
إننا لا ننكر دور معجماتنا القديمة من حيث ثروتها اللغوية، ونظم التطبيق والتعامل، من هذا كله فإن مسألة تعريب التقنية في عصر المعلوماتية بواسطة (الحاسوب) ليس بالأمر الصعب، فلغتنا تملك مقومات البقاء والتحدي في عصر لا يصح به إلا المتقن الصحيح، ونحن قادرون على إضفاء ثوب التحديث التقني عليها مستندين إلى الحقائق التالية:
- شموليتها لكل أنواع المعرفة (علوم اللغة).
- قدرتها على التطور والتغيير مجاراة لسنة التطور.
- حصولها على قصب السبق في مسألتي التعريب والترجمة.
- تنوع دلالات مفرداتها وتنوع مظاهرها اللغوية من (اشتراك، وتضاد، حقيقة، وغيرها).
- تقعيدها لألفاظها.
- دور المجامع اللغوية في مسايرة النهضة العلمية اللغوية الحديثة.
إن الحوصلة التي نستنتجها من تعريب التقنية وما قدمناه بإيجاز، هي قدرتنا على تطويع آلية اللغة لتواكب عصر الحضارة، ولنا في تقدم الأوروبيين في هذا المضمار حافز للعمل، ونكون قد قدمنا للغتنا القومية خدمة نتوصل من خلالها إلى الحقائق والانتقال من الملاحظة الشخصية والتذوق اللغوي النظري إلى عالم المعلوماتية المتوفر.