مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

عين الكاتب أم عين الكاميرا؟

يترابط الإدراك البصري مع الكتابة الأدبية، وطبيعة الجغرافيا التي تستثير الكاتب بحيث يصبح قادراً على سرد المرئيات، بترميز ذي وظائف متعددة، من بينها قوة المحاكاة اللفظية التي تشترك مع المرئيات. وهذا بحد ذاته من الإشكاليات، لأننا ندرك أن كل فكرة تنتج صورة. إما متخيلة وإما حقيقة مكتوبة، وقد يتضاعف الإحساس بها من خلال الكلمات بشكل أكبر في السرد وقوة تركيز المتخيلة، وديناميكية تحليل الصورة المرئية أو المحسوسة، وبالتالي فإن الكاتب يمتلك قدرة على الفصل بين ما هو حسي، وبين ما هو إدراكي بفهم يشترك به من خلال الكتابة الأدبية مع الصورة، بتواؤم مع المعنى الذي يجب الحفاظ عليه إلى جانب الإدراك البصري، والعالم الرؤيوي لنصوص تمثل نوعاً من المسارات المرئية، وهي مجرد رؤية كتابية يخوضها الكاتب، فيولد النص الذي يمنح القارئ صوراً تخيلية قوية تصل إلى ما هو مرئي في حال صاحب النص صورة ما أو حتى تفصيلات تعتمد على ما هو مرئي للآخرين، ولكن بلغة الكتابة وتفاعلاتها التي تحتل موقعاً مركزياً في الأدب، فما هي عين الكاتب الأدبية؟
عين الكاتب الأدبية هي عين تفصيلية وتشريحية، تشبه عين الجراح التي تشرح لفهم الدورة الدموية، ووظائف الكبد ودور القلب وغيره، ولكن عين الكاميرا تلتقط صورة لأعضاء جسم الإنسان بعيداً عن الشرح التفصيلي الشفهي أو المكتوب لتنحصر بما يُرى بالعين المجردة. في زمن المؤلف فيكتور هوجو لم تتواجد الكاميرا، بل كانت فترة انطباعية بالرسم، ولم يتواجد التسجيل الصوتي، ولا اللقطة الفوتوغرافية، فالعالم منقطع عن بعضه البعض. فما يحدث في قرية ما يبقى مجهولاً لقرية أخرى، إلا من خلال ما هو مكتوب أو منقول من شاعر أو كاتب، ومن خلال توسيع الصورة الذهنية، لتصل إلى أكبر شريحة ممكنة، وما من وسيلة أخرى قبل أن تصل الكاميرا. ومن ثم جاءت الموسيقى وجاء المشهد الحركي، ولذلك ما كتبه هوجو عن كنيسة نوتردام في 83 صفحة من وصف لأروقتها وقرانصها وأفاريزها وزجاجها وما إلى ذلك، استغرق صفحات كثيرة في روايته أحدب نوتردام، فالكاتب عندما يكتب عن شيء كهذا يغرق في التفصيلات المرئية التي تعجز عنها العين التي لا تستطيع الوصول لترى، بينما الكاميرا تختصر كل ذلك بثوان قليلة من خلال لقطات بسيطة لا تستغرق ثواني ما بين لقطة عامة وأخرى داخلية. ولكن تبقى عين الكاتب هي الأساس المكتوب لشيء مجهول لا نراه صورة أو مكاناً قابعاً في جغرافية ما. فهل استطاع توفيق الحكيم تسليط العين الأدبية على السلوك والأفكار بينما وضعها هوجو على الأمكنة بشكل أكبر؟ أم أن قوة عين الكاتب في المسرح تمثل هوية شخصياته المرئية على الخشبة من خلال علاقات القوة بينه وبينها؟ وما الذي يجذب العين الكتابية ويستثيرها للكتابة؟ وهل طه حسين اعتمد على العين الحسية التي تلتقط جماليات النفس الشاعرية؟ وهل هي الأقوى؟
يقال لا يكون الفيلم جيداً حقاً ما لم تكن الكاميرا في رأس شاعر. بمعنى أن تنتخب اللقطات الأساسية والجوهرية، وتوجزها بثوان، وتقدمها بحيث تعطينا فكرة عن المعنى، ولا داعي لكل الوصف من خلال تنفيذ ما هو مكتوب، بل استشراف المشاهدة بالعين المجردة. فعين الكاتب هي عين الصقر، تنتقي الهدف بجملته. فالكاتب العظيم عينه هي الكاميرا. لأنه يرى عمق الأشياء من زواياها المثيرة للاستفزاز، وبالتالي فإن عين الكاتب لا تعرف الحدود، لأنها تأخذ بعين الاعتبار الأسس النصية، ومستويات الأمكنة التي يريد تفصيلها ليراها القارئ بحس تخيلي ممتع، بل ومقنع وينتمي لواقع اجتزأه الكاتب ليراه القارئ من خلال النص وبشكل موضوعي وفعال، يؤثر على المخزون المعرفي البلاغي للغة التي يقدم بها الكاتب نصه، دون تشويه للحقائق التي يستمدها القارئ حسياً، ويشعر بالانتماء لها من خلال عناصر الإقناع التي اعتمدت عليها عين الكاتب في تقديم النص، وفق الخيارات الأسلوبية والبلاغية، والملاحظات الدقيقة للكثير من التفاصيل التي تعتمد عليها عين الكاميرا، خصوصاً في الأعمال الروائية الطويلة التي شاهدناها عبر السينما، وعبر لقطات الكاميرا التي اعتمدت أساساً على ما كتبه السيناريست الذي بدوره استطاع تحويل العمل الروائي إلى فيلم يُرى بالعين. فهل عين الكاتب هي عين الصقر فعلاً؟ وهل الكاميرا ما لم تكن في رأس شاعر هي أداة تلتقط ما لا معنى له؟
إن عين الكاتب هي المرآة التي نرى بها عمق المجتمعات، والأماكن التي تربطنا بها علاقات تاريخية حميمة أو دينية، وغيرها من خلال النص الذي يتم تقديمه وفق سياق التأليف الممتع الذي يخترق الوجدان والعقل، تبعاً لحساسية الكاتب ومعرفته، فهو المفتون بما يكتبه بعيداً عن المبالغات، فالعين التي تكتب ما تراه من خلال العمق الفعلي للمكان أو للشخصية التي يقدم لها المواصفات المرتبطة سلوكياً بالنفس الإنسانية هي التي تغزو بكلمتها فكر القارئ، بل وتمنحه الصورة الذهنية بكامل مساحاتها، ومتغيراتها المرتبطة بالنص ومصدره اللغوي، الذي يضعنا مباشرة أمام وظائف التعبير التي تحكم الكثير من العلاقات المرتبطة بعين الكاتب، بل والتنافس معها على رؤيوية الأفعال التي تصدر من هذه العين القادرة على نقلنا إلى عوالم نستحضرها من النص المكتوب ذهنياً. لتصبح مرئيات افتراضية أكدتها عين الكاميرا فيما بعد من خلال الكثير من الأفلام الروائية التي شاهدناها سينمائياً، وبلقطات اختصرت الكثير من الصفحات التي كتبتها عين الكاتب، القادرة على وضعنا أمام أخطر الأحداث من خلال النص المكتوب. فأين عين الكاتب اليوم؟ وهل من أهمية لها مرئياً؟ وهل القيمة الأدبية في الأعمال الفنية ترتبط بقدرة الكاتب على منحها صورة موضوعية ذات مصداقية ذهنية عالية؟ وهل أصبحنا أمام معضلات أدبية سببها بطء القراءة وعدم قدرة القارئ على التقاط الصور الذهنية بسبب الصورة الإعلامية وكثرتها بل وإغراق شبكات التواصل الاجتماعي بالصورة، وانفتاحها على الفن فوتوغرافيا، بل وسهولة فهمها بعيداً عن النص الأدبي؟
ما بين الكتابة السينمائية والكتابة الأدبية تشابه قائم على التفصيل الممل أو التفصيل الموضوعي والمدروس، فعين الكاميرا في السيناريو تختلف عن عين الكاميرا في الكتابة الأدبية وإن يصعب التفريق بينهما لأن المشترك بينهما هو عين الصقر التي تحدثنا عنها والتي تشمل الصورة الذهنية واتساعها بل وفتح مساحات أخرى هي البحث عن عدة تأثيرات، فكتابات همنغواي وفولكنر وتولستوي في الشيخ والبحر قائمة على الشرح التفصيلي للصيد وبقدرة تتخطى عين الكاميرا حسياً، فعين الكاتب التقطت ما لا تستطيع التقاطه عين الكاميرا وفق سلوكيات الشيخ في البحر وفي ساعات مختلفة وأوضاع مختلفة وبمفاهيم أدبية تجعل القارئ يحلق في سماء الشيخ وسمكته وقاربه والولد المرافق له وما إلى ذلك. فهل يمكن للسينما الصامتة أن تؤدي دور عين الكاتب بصفات أدبية غير قابلة للجدل البصري أو التحليلي وحتى النقدي؟ وما هي الاختلافات بين القلم الأدبي والصورة؟
أسئلة كثيرة تدور تحت عناوين مختلفة تترأسها عين الكاتب وعين الكاميرا، ولكل منها دورها وتقاربها التعبيري. رغم ابتعادهما حالياً بسبب غزو الصورة لشبكات التواصل الاجتماعي، والتي تنافس في صيغتها النص المكتوب. خصوصاً وأننا نشهد الكسل في القراءة، وانخفاض عدد القراء في مقابل ارتفاع عدد متابعي الصور مع استثناءات قليلة. رغم أن العين الأدبية تفرض تعاوناً بينها وبين المخرج والمصور، فماذا عن القصص المصورة؟ وماذا عن المخيلة التي قصفتها تقنيات التصوير الأخرى التي يمكن لها التضليل في الكثير من الأحيان؟ فالكاتب يحاول تكثيف الواقع وتفعيله كتابياً من خلال قدراته الفعلية في منح الصورة الذهنية إحساساً حقيقياً لا ينفصل عن الواقع إلا من خلال اللغة التي يقرأ بها القارئ النص ويتأثر بها شكلاً ومضموناً. فهل من عين للقارئ تكشف عن المعنى الحقيقي للنص؟

ذو صلة