مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

ومن ذا الذي يا عزُ لا يتغيّر؟!

(لا شيء ثابت مثل التغيير). كل شيء يتغير، فالتغيير سنة كونية تسري على كل شيء، على المكان كما على الزمان. فالزمن حتماً تغيّر بل في رواية أنه (مَيَّل). أما تغير المناخ فقد استشعره العالم وتزايد اهتمامه بقضاياه بشكل مضطرد منذ المؤتمر البيئي الدولي الأول في ستوكهولم عام 1972م والذي نشأ عنه برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) متزامناً مع صدور تقرير (مستقبلنا المشترك OUR COMMON FUTURE) الذي أعدته اللجنة العالمية للبيئة التابعة للأمم المتحدة واستحدثت فيه ما يعرف الآن بفلسفة التنمية المستدامة. أعقب ذلك في يونيو 1993 انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو 1992 والذي خرج بإعلان ريو (أو قمة الأرض) الذي حدد الخطوط العريضة للمبادئ الأخلاقية لأنماط الحياة المستدامة، وخرج كذلك بالاتفاقية الإطارية لتغير المناخ.
كانت تلك ضربة البداية لمرحلة طويلة من المفاوضات المكثفة بشأن البيئة والمناخ، اشتملت على 26 مؤتمراً، أبرزها مؤتمر كيوتو 1997 والذي التزمت فيه الدول المتقدمة بخفض انبعاثات الغازات الدفيئة الست (ثاني أكسيد الكربون، وغاز الميثان، إلخ) المسببة للتسخين الكوني (ازدياد درجة الحرارة السطحية المتوسطة في العالم مع زيادة كمية الغازات الدفيئة) بنسبة 5,2  % مقارنة بمستوى انبعاثات عام 1990م، ومؤتمر مراكش 2001 حيث وضعت القواعد التنفيذية لبروتوكول كيوتو، والتي لم توضع موضع التنفيذ إلا في مونتريال 2005، ونيروبي 2006، وكوبنهاجن 2009، وكانكون 2010 حيث حدث تقدم ملموس تمثل في إنشاء المؤسسات كصندوق المناخ الأخضر ولجنة التكيف، وتواصلت المؤتمرات في عام 2015 حيث تم التوقيع على اتفاقية باريس التي هدفت للوصول إلى تثبيت تركيزات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى يسمح للنظام البيئي بأن يتكيف بصورة طبيعية مع تغير المناخ. وانعقد آخر هذه المؤتمرات في العام 2021 الحالي بمدينة غلاسكو كأول مؤتمر يحدث فيه اتفاق دولي يتضمن تعهدات بتقليل استخدام الفحم كمصدر للطاقة وتضمن كذلك خارطة طريق لتقليل معدل زيادة درجة حرارة الكوكب إلى ما دون 1.5 درجة مئوية.
برز إلى حيز الوجود خلال تلك المراحل التفاوضية العديد من المفاهيم الموائمة للنشاطات البشرية مع البيئة، كمفهوم النشاطات الصديقة للبيئة ومفهوم (الاخضرار) الذي أخذ يلقي بظلاله على كافة مجالات العمل الإنساني ويقترن بها، فأخذنا نسمع عن مفهوم (الطاقة الخضراء) و(العمارة الخضراء) و(الاقتصاد الأخضر). كذلك مكنت تلك المراحل التفاوضية المتطاولة زمنياً من الارتقاء بمستوى الوعي العالمي بخطورة ظاهرة تغير المناخ، ومن الاعتراف بأن هذه الظاهرة العالمية الخطيرة التي تتعلق بحياة الناس ومصائرهم تتطلب جهوداً قصوى وتعاوناً مشتركاً من الجميع لمكافحتها، أفراداً وجماعات، بلداناً وأقاليم، منظمات دولية ومحلية، وعلى كافة المستويات الشعبية والرسمية.
لقد أعاد كثير من الناس -على مستوى الأفراد والجماعات والمستويات الشعبية- طوعاً النظر في أنماط حيواتهم والعمل على تغيير سلوكياتهم المعيشية، فبرزت على سبيل المثال دعوات إلى استعمال المركبات العامة بدلاً عن وسائل النقل الخاصة للإسهام في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المسببة للتسخين الكوني بنسبة 85 %. وبرزت دعوات لاستخدم خام إطارات العربات المستعملة المعاد تدويرها في تصنيع الأحذية واستخدام عجينة الورق المعاد تدويره بنسبة 100 % في تصنيع الصناديق التي توضع عليها الأحذية. وتزايدت الدعوات لتناول الوجبات الغذائية النباتية بدلاً من الوجبات التي تحتوي على اللحوم الحيوانية للمساهمة في خفض إنتاج الغازات الدفيئة بنسبة 80 % من خلال خفض المساحات الزراعية المستخدمة في إنتاج اللحوم والبالغة ربع مساحة الكرة الأرضية.
أما على مستوى البلدان والأقاليم والمستويات الرسمية، فقد انطلقت العديد من المبادرات العملية لمكافحة التغير المناخي وتخفيف آثاره، من أبرزها وأحدثها
مبادرتا (السعودية الخضراء) و(الشرق الأوسط الأخضر)، اللتان أعلن عنهما سمو الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة العربية السعودية، حيث تدمجان مختلف آليات التنمية البشرية السليمة (التنمية المستدامة، والتنمية النظيفة، إلخ) في حماية الأرض والطبيعة على مستوى المملكة وإقليم الشرق الأوسط الكبير،
وتسهمان معاً بشكل معتبر في بلوغ الأهداف العالمية في مجالات تغير المناخ، والمحافظة على التنوع الحيوي وصونه، وتحييد تدهور الأراضي والمحافظة على التربة وإعادة إحيائها وعدم انجرافها، ومحاربة التصحر وزحف الرمال.
تسعى (مبادرة الشرق الأوسط الأخضر) بشكل خاص، بالتعاون مع الشركاء في الإقليم، إلى زيادة الرقعة الخضراء بغرس 40 مليار شجرة (بالإضافة لعشرة ملايين شجرة تشتمل عليها مبادرة السعودية الخضراء) من المتوقع أن تمكن هذه المبادرة من استعادة 200 مليون هكتار من أراضي الإقليم المتدهورة، أي نسبة 5 % من الأهداف العالمية في هذا المجال، وأن تحقق تخفيضا بنسبة 2,5 من معدلات الكربون العالمية. بالإضافة إلى ذلك من المتوقع أن تؤدي هذه المبادرة إلى تحسين الظروف الحياتية للسكان بالإقليم في المناطق الريفية المشمولة بالمبادرة من خلال توفير أفضل لمقومات الحياة (المياه والطاقة والبنية الاجتماعية إلخ) وزيادة مستويات الأمن الغذائي ودفع التنمية بوجه عام، سواء من خلال تنويع الأنشطة الزراعية والحيوانية أو من خلال زيادة فرص التشغيل في هذين القطاعين مما يسهم كذلك في إحداث هجرة عكسية من المدينة إلى الريف. ويبقى الأمل معقوداً في تنفيذ هذه المبادرة على المنافع الجلية التي يمكن أن تجنيها دول الإقليم من هذه المبادرة وعلى قوة الإرادة السياسية لصاحب المبادرة، سمو الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة العربية السعودية وقادة دول هذا الإقليم الذي يشكل التغير المناخي ضغوطًاً كبيرة على موارده المائية والزراعية النادرة أصلاً، ويهدد أمن بلدانه واستقرارها السياسي.
وأخيراً، وبدءاً على بدء، يبقى التغير هو الثابت الوحيد بلا استثناء إلا استثناء مشاعر (كثيِّر) صاحب (عزة) وصاحب المشاعر الصادقة النبيلة التي عبر عنها شعراً:
لقد زعمَتْ أنّي تغيَّرتُ بعدها
    ومَنْ ذا الذي يا عزَّ لا يتغيَّرُ
تغيَّر جسمي والخليقة كالَّذي
    عَهِدْتِ ولم يُخْبَرْ بِسرِّكِ مُخبَرُ
أيادي سبا يا عَزَّ ما كنتُ بعدكُمْ
    فلمْ يحْلَ للعَيْنَيْنِ بعدَكِ مَنظرُ

ذو صلة