مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

ذلك النداء

- 1 -
خبطت على صدرها بكفها لما أتاها النبأ. اتهمت زوجها:
- أنت وحدك المسؤول. فلينتقم الله منك.
صامتاً تابعها وهي تسب وتلعن. تملأ وعاء بالماء. تزفر بضيق وهي تتعجل الماء المتدفق من فوهة الطلمبة. تصب الماء على رأسها. يخرج عن صمته:
- لم تجف الحناء بعد.
تواصل غسل الحناء عن شعرها، وتعيد اتهام الرجل:
- أنت المسؤول، محمود بن بهانة الغلبانة سيموت بسبب طيارتك يا أبو طيارة.
لم يحب رائحة الحناء أبداً. هي تحبها وتلجأ إليها كثيراً. تتحدث دائماً عن فائدة الحناء لعلاج أوجاع الرأس كما أنها سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. يرغب في إغاظتها.
- ليسا الصداع والسنة يا وطفة.
تقول ساخرة:
- أفتنا أفادك الله.
- الشعر الأبيض يا وطفة، تريدين إخفاء شيبك خلف لون الحناء.
يدرك أنه أفلح في إغاظتها فيواصل:
- عجينة الحناء فوق رأسك تذكرني بأمك حينما وضعت الطين فوق رأسها يوم موت أخيك.
- عقبال ما أشيل الطين عليك يا سعيد يا ابن هنية.
تنطقها وهي تسدل الثوب الأسود. تغطي رأسها بشال أسود أيضاً. يسألها:
- إلى أين؟
- إلى المستشفى لأكون بجوار بهانة الغلبانة. ابنها الوحيد فوق ثلاث بنات سيموت بسببك. ليته ينجو وترحل أنت.
- وهل تحلو لك الحياة بدوني؟
- لا تحلو إلا بدونك.
- تكذبين.
- أتعرف يا سعيد لن ألبس الأسود عليك إلا ليومين فقط.
يضحك فيزداد غيظها.
- أيام العدة أكثر من ذلك.
- أتعرف يا ابن هنية بماذا تذكرني؟ أنت مثل الساقية التي لا تدور. أتذكر بتوع السيما حينما صوروا فيلماً في أرضنا. لم يجدوا الساقية التي يريدونها فأرضنا الآن نرويها بالمكن. يومها صنعوا ساقية من الخشب والكرتون. ساقية كده وكده لا تدور ولا تجلب الماء. أنت يا سعيد تذكرني بهذه الساقية.
كالعادة تغلبه بلسانها فيلزم الصمت. ولما تنتهي تصفق الباب خلفها بشدة ويحبو سعيد صاعداً إلى السطح.

- 2 -
سعيد الكسيح لا عمل له.
في طفولته أصابه المرض الذي أتلف ساقيه.
لم يذهب إلى المدرسة. استعاض الأب بشيخ الكتاب. يأتي الشيخ كل يوم قبل المغرب بساعة. يكون سعيد قد عاد من الحقل. ينزله الأب من فوق الكارو. يحبو داخلاً البيت. تغسل له الأم يديه ووجهه. تغير جلبابه ويجلس منتظراً قدوم الشيخ.
* * *
حفظ سعيد سبعة أجزاء من القرآن في زمن قياسي لكن غلظة صوته قضت على حلمه بأن يصير مقرئاً للقرآن. فقد حماسه لما أدركه اليأس فلم يكمل حفظ الجزء الثامن، فأضاع على البيت فرحة حفل ختم القرآن، وأضاع على الشيخ الجبة الصوفية التي وعده الأب بها.
* * *
أقلع الشيخ عن عادته في الحضور لكن سعيداً واصل الرجوع من الحقل قبل المغرب بساعة أو يزيد. لم يعد ينتظر الشيخ. يحبو صاعداً الدرج الحجري. لا يدخل الحجرات إلا عند النوم. يقضي الوقت منذ الغروب وحتى انتصاف الليل في ذلك المربع بين السور الخشبي للسلم والحجرات. مربع كبير طول ضلعه أربعة أمتار يسمونه (الحضير). مساحته هي مساحة عالم سعيد. فيه يرقد شاخصاً إلى طيور يراها فى الحقل فمن أتى بها إلى هنا؟ خاصة تلك التي تسميها أمه (وز عراقي) تظل في طيرانها صامتة حتى تصبح فوق البيت. ترى سعيداً فتناديه. يمد ذراعيه كما لو كانا جناحين. يحاول تقليد الصوت. يعيد المحاولة، لكن الوز العراقي يواصل رحلته ولا يأبه لرد سعيد.
* * *
يفكر في تقليص المسافة بينه والطيور. فليصعد إلى السطح. يحبو باتجاه السلم الخشبي. يمسك بأولى الدرجات محاولاً الاستناد عليها ليقوم، لكنه لا يستطيع. يظل يحاول ويعيد المحاولة دون كلل، ولا يصل أبداً للدرجة التالية مهما حاول. يرمق السطح بأسى. ينادي الطيور التي لم تعد في سمائه. يحبو مبتعداً عن السلم. يعود لرقاده فوق الحصير شاخصاً نحو السماء.
* * *
يسأله الأب ساخراً عن عدد النجوم فيرد بتقليد صياح الوز العراقي. تندب الأم حظها فالابن الذي رجته من الدنيا ابتلاه الله بعد تلف ساقيه بفقدان عقله. تشير عليها جارة فتبخره وترقيه لكنه لا يكف. تهمس في أذنها الجارة باسم جارة أخرى لم يفلح ابنها في حفظ آية واحدة من القرآن. تأتي الأم بقطعة كبيرة من شيء تدعوه (شبة) وتأتي بورقة ومقص. تقص الورقة على شكل عروسة. من صدر جلبابها تنزع إبرة وتثقب الورقة ثقوباً بعدد الجارات اللواتي رأين سعيداً ولم يصلين على النبي عليه الصلاة والسلام. تمتلئ الورقة بالثقوب. فتوقد الأم النار. تحرق الشبة. يتسلى سعيد بمتابعة تحولات وتشكلات الشبة المحترقة. تتخذ أشكالاً عدة، وترى الأم في كل شكل صورة لحاسدة محتملة. تكمل الأم علاجها، فتحرق العروس الملأى بالثقوب ثم تمسك برمادها تعجنه مع بقايا الشبة المحترقة، وترسم بها على جبهة سعيد صلباناً بينما شفتاها تتمتمان بـ(قل أعوذ برب الفلق).
- 3 -
اقترح الأب أن يزوج سعيداً، فاختارت الأم (وطفة).
اعترض الأب:
- ألم تجدي إلا بنت الكلاف.
- ما لها؟
- أصلها مثل وشها.
ردت بحسرة:
- الجميلة بنت الأصول لن تقبل بسعيد زوجاً.
* * *
رفض سعيد فكرة الزواج. بكى ورفض العودة من الحقل. سألته الأم عن السبب فلم يجب سوى بمزيد من البكاء، حاولت إغوائه بتلبية رغباته، فاجأها بأن طلب بيتاً هناك حيث الخلاء الوسيع. أصر سعيد وألحت هنية حتى رضخ الأب، بنى حجرة واحدة على رأس الحقل.
* * *
الدرج الحجري يقود سعيداً مباشرة إلى السطح، فلا يغادر إلا حينما تلهبه شمس الظهيرة بينما وطفة تعمل في الحقل أو ترعى دجاجاتها في البيت. ولا عمل لسعيد إلا مراقبة الطيور ومناداتها. حتى تلك الطيور الورقية يناديها. أحبها وصاحب صناعها. علموه فصنع لنفسه واحدة. أعجبته فصنع غيرها. أتقن صنع طائرات الورق فاشتهر بها. أصبح سعيداً الطيار. أشارت عليه وطفة:
- ما دمت قد أفلحت في شيء فلماذا لا تكسب منه؟
- 4 -
يتعجب سعيد لأمرها. شجعته على صنع الطائرات بغرض بيعها وها هي تلومه الآن. ما ذنبه هو لو مات محمود بن بهانة أو حتى لو ماتت بهانة نفسها. يحبو سعيد صاعداً الدرج. لم يزل الجو ساخناً لكنه لا يهتم. في الركن أدوات صناعته، تماماً كما تركها بالأمس. يشرع على التو في صنع طائرة كبيرة، بطول البوصة كلها. يتخيل الشكل فيفرح. ستكون طائرة ليس كمثلها طائرة. سيفاجئ بها وطفة. سيمد الطائرة بكل مالديه من خيط ويطيرها حتى مستشفى البندر. هناك يمكن أن تراها وطفة وبهانة ومحمود والجميع.
* * *
الهواء يحمل الطائرة وسعيد يرخي لها الخيط. تعلو الطائرة وتبتعد. ينتشي سعيد ويصيح كالوز العراقي. تبعد الطائرة وتصغر. تبعد وتشد الخيط بقوة. يرقب سعيد طائره ويتمنى لو كان هو الطائر.
(آه لو ينظر -ولو لمرة واحدة- إلى البيوت والحقول من علٍ. يكون السطح صغيراً ووطفة لا تبين).
يصيح مقلداً كل الطيور. يفرد الخيط كله بينما طائره يبتعد ويشده، يناديه. يحرك ذراعيه كما لوكانا جناحين، يحبو باتجاه حافة السطح. ويظل طائره يشده. يناديه. يناديه. ولا يملك سعيد إلا أن يلبي النداء.

ذو صلة