مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

اللغات السائدة بوسعها الانتشار دون إكراه

السؤال المعني بكيفية انتشارها أو ما إذا كان في الإمكان مقاومتها تصعب الإجابة عنه.
لا تحسبنّ أبداً أنّ العالم يتجه نحو الاضمحلال، فهناك كتاب حديث بعنوان (لا تتكلم) (Speak Not) للصحافي جيمس غريفيثز يلقي نظرةً على الأيام الخوالي الطالحة عندما كان لا بأس من فرض ثقافة على الناس بالإكراه، ويقص علينا المؤلف قصص اللغتين الويلزيّة والهاوائية اللتين أوشكتا على الاندثار أو الموت قبل أن ينقذهما النشطاء أصحاب الإرادة القوية والعزيمة الحديديّة.
لقد حرّضَ الأمريكان على انقلاب في هاواي أدى إلى ضمها في نهاية المطاف إلى الأراضي الأمريكية، وأقام المبشرون مدارس هناك، وأحبطوا بكل ما أوتوا من قوة العادات المحلية للسكان كرقصة الهولا، وهي رقصة تُؤدى تكريماً للأسلاف عدّها الأمريكان داعرة وفاحشة. ولازمَ قمع الثقافات قمع اللغة، ففي أواخر القرن العشرين كان الناطقون باللغة الهاوائية المتقنون لها قليلين على نحو يثير القلق ويدق ناقوس الخطر، غير أن الناشطين كافحوا لتوسعة نطاق تعليم اللغة، وأخيراً تمكنوا من إلزام تعليم اللغة الهاوائية في العديد من المدارس، والآن نجد عدد الناطقين بها يزداد، ويجد حتى بعض مواطني الدولة الذين ينتمون إلى عرقيات أخرى تلك اللغة رائجة نوعاً ما فيتعلمونها.
أما اللغة الويلزيّة، فقد صمدت على مدار قرون من الاتحاد مع إنجلترا، ويرجع ذلك إلى حدٍ كبير إلى عزلة ويلز النسبية وفقرها، ولكن في القرن التاسع عشر، كثّفت السلطات البريطانية جهودها الساعية إلى فرض اللغة الإنجليزية: وأُجبر أطفال المدارس على تعليق شارة وصمة عار (لا للويلزيّة) إذا تحدثوا بلغتهم الأم، وهو الأسلوب نفسه الذي نراه في سياق قمع اللغات عموماً حول العالم.
ومُجدداً قاوم الناشطون، ففي عام 1936، أضرم ثلاثة منهم النار في معسكر تدريبيّ للقوات الجوية بُني رغم المعارضة المحلية، وسلَّم الفاعلون أنفسهم للسلطات، ثم رفضوا أن يتحدثوا أي لغة غير الويلزيّة في أول محاكمة لهم، وانتهى الأمر بإلغاء المحاكمة، غير أن محاكمتهم الثانية أدت إلى إدانتهم، ولكن عند إطلاق سراحهم بعدها بتسعة أشهر، احتُفي بمشعلي النيران بوصفهم أبطالاً، فقد أشعلوا ناراً تحت شعار قومية اللغة الويلزيّة الذي لم يُوقف وحسب اضمحلال أعداد الناطقين بالويلزيّة، وإنما أدى إلى زيادة أعدادهم، واليوم نجد أن حق التحدث بالويلزية في المحاكمات (وفي العديد من السياقات الأخرى) صارَ مكفولاً ومضموناً.
ويُختتم كتاب غريفيثز بقصةٍ أكثر حزناً، فرغم أن الماندرين هي اللغة الأم الأكثر انتشاراً في العالم أجمع، ما زال لدى الصين مئات الملايين من الناطقين الأصليين بلغات صينية أخرى كالكانتونيّة (وكثيراً ما يُطلق عليها اسم (لهجات) عن طريق الخطأ)، وكذلك لغات خلاف لغات أسرة (هان) كتلك المُستخدمة في منغوليا الداخلية والتبت. ولمّا عَدّت السلطات هذه التنويعة، كما هو واضح، غير مناسبة لدولةٍ صاعدة، فقد ضاعفت الدولة جهودها الساعية إلى إكراه الجميع على النطق بالماندرينية، على سبيل المثال عن طريق إيقاف البرامج التلفزيونية الناطقة بالكانتونية، وإعادة توطين الصينيين أبناء أسرة (هان) في التبت، كجزءٍ من محاولة أوسع نطاقاً لإضعاف ثقافتها. إن النظام الذي لا يبالي بنبذ الأجانب يمكن أن يتجاوز المدى ويأتي بأفعالٍ تفوق حتى ما فعله الاستيطانيون الأمريكان والبريطانيون.
غير أن اللغة الإنجليزية تنتشر بسبلٍ أقل إكراهاً أيضاً. تقصُّ علينا روزماري سي سالومون في كتابها الجديد (صعود اللغة الإنجليزية) (The Rise of English) قصة لغة انتقلت من موضع قوة إلى موضع قوة آخر بعد سقوط الإمبراطورية البريطانية، وربما أيضاً تقص علينا قصة الهيمنة العالمية لأمريكا، إن هذين العنصرين أعطيا اللغة الإنجليزية دفعة قوية، ولكن ما أن يتمكن الزخم من لغة ما، سواء زخم النمو أو الاضمحلال، فإنه ينزع إلى الاستمرار، فجميع الناس يريدون التحدث بلغة يستخدمها كثيرون من ذوي النفوذ والشأن.
إن انتصار الإنجليزية أدى إلى موت العديد من اللغات الأخرى (لا سيما لغات محلية في أمريكا وكندا وأستراليا)، ولكن في بقاع أخرى، لم تستطع الإنجليزية إلا أن تقلل من شأن لغات أخرى لا أكثر. وتلقي سالومون نظرةً على هولندا، حيث أدت حمّى الإقبال على تعلُّم الإنجليزية إلى انتشارها في الجامعات، وأمست مناهج كاملة للطلاب الجامعيين، بل حتى لطلاب ما بعد المرحلة الجامعية، تُدرّس بالإنجليزية، ويقدم الطلاب مقالاتهم التي تتناول شعراء هولنديين بالإنجليزية.
وتريد البلدان الصغيرة بطبيعة الحال بلوغ العالمية واستقطاب خبراء من الخارج، غير أن هذه النزعة أدت إلى ترك مساحة متضائلة للهولندية. ولا يقتصر الأمر على أن مزيداً من البحث العلمي يُجرى باللغة الإنجليزية (توضح سالومون أنه من دون هذا العامل المشترك، لما صُنعت لقاحات فيروس كورونا المُستجد بتلك السرعة)، وكذلك تعليم الإخصائيين السريريين الذين ربما يفتقرون لمصطلحات هولندية عندما يخاطبون المرضى. وفي مثل هذه المواقف، يمكن للغات أن تتراجع وتقتصر على المنازل ودائرة الأصدقاء، ولا يُعتد بعد بجديتها.
ويمثل ذلك معضلة لأصحاب العقول الليبرالية، فإكراه الناس على استخدام لغة ما فعل شرير، ومن الأصعب تأييد إجراءات الدولة الغاشمة الساعية إلى منع الناس من تبني لغة ما طواعيةً. فإذا شعر الناس بأن استخدام لغة ما يصب في مصلحتهم، فمن ذا الذي يحق له أن يخالفهم من الدخلاء عليهم؟ لكن التنوع قيمة ليبرالية أيضاً.
إن التعددية اللغوية (في الدول وبين الأفراد على حدٍ سواء) تقلل الطبيعة التنافسية للغات، لكنها مُكلفة، إذ تستهلك وقتاً وتستنفد مالاً، وفي نهاية المطاف، قد يتعين على بعض المجتمعات أن تُحدد قيمة مالية للإرث الثقافي الذي ما أن يضيع حتى تكاد استعادته أن تستحيل.

ذو صلة