كل من يخالف أمر جماعته ويجلب لها المتاعب ويشكل خطراً على أمنها ووحدتها واستقرارها، يكون مصيره النفي والإبعاد. هكذا كانت الجماعات البشرية منذ الأزل تعاقب أفرادها الذين يخرجون عن نواميسها ويضرون بمصالحها.
وقد شرعت القبيلة العربية هذه العقوبة على المتمرد من أبنائها الذي لا يلتزم بأعرافها ونظمها القبلية، فهي تضطر إلى التبرؤ منه ورفع الحماية عنه، وخلعه علناً على رؤوس الأشهاد في الأسواق والمواسم، فلا تحتمل جريرته، ولا تنتصر له إذا اُعتدي عليه، وعرفت هذه العقوبة في الجاهلية باسم الخلع، جاء في لسان العرب «والخَليعُ: الرَّجُلُ يَجْني الجِناياتِ يُؤْخذ بِهَا أَولياؤُه فيتبرَّؤُون مِنْهُ وَمِنْ جِنَايَتِهِ وَيَقُولُونَ: إِنّا خلَعْنا فُلَاناً فَلَا نأْخذ أَحداً بِجِنَايَةٍ تُجْنى عَلَيْهِ، وَلَا نؤَاخَذ بِجِنَايَاتِهِ الَّتِي يَجْنيها، وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الخَلِيعَ.
وقد تطلب القبيلة إلى أختها أو حليفتها خلع أحد رجالها إذا لم يراع ما بين القبيلتين من عهود أو قرابة، لئلا يقع القتال بينهما بسببه. وقد يكون الخلع إجراءً استباقياً لما قد تؤول إليه العداوة الشخصية بين رجلين ينتميان لنفس القبيلة وجرها لأتون حرب داخلية فانية، كما فعلت قريش حين أعلنت خلع عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، خشية أن تؤدي العداوة القائمة بينهما إلى نشوب القتال بين بطون قريش إذا ما قتل أحدهما الآخر. ولا يجد الخليع غالباً من يؤويه بين القبائل لعلمهم بجناياته السابقة، مما يضطره إلى ممارسة اللصوصية وقطع الطريق، وكان الخلعاء يتحدون فيما بينهم، مشكلين بذلك جماعات الصعاليك.
وأقر الإسلام عقوبة النفي وفق حدود شرعية، وعقوبات تعزيرية يراها الحاكم، وهي بشكل عام أخف وطأة من عقوبة الخلع في الجاهلية، فالمنفي في الإسلام يتمتع بحقوق حفظ الدين والنفس والمال، وقد يقضي العقوبة لمدة محددة، كما أنه في حالات معينة كان يسمح للمنفيين قريباً من المدينة أن يأتوا إليها يوم الجمعة للتزود منها ثم العودة إلى المنفى القريب.
ومن خلال تتبعنا لأخبار المنفيين في صدر الإسلام -وهي نتف متناثرة في كتب الأدب والتاريخ والسير والتراجم والبلدان- نجد أن المنافي متعددة وغير مقيدة بمكان واحد، منها (خيبر، وفدك، والطائف، والبصرة، وعمان، ومصر، وفارس، وخراسان)، إلا أننا نلحظ جهة تكرر النفي إليها، وهي جزر وسواحل أفريقيا الشرقية المطلة على البحر الأحمر. حيث نجد في كتاب المسالك والممالك للبكري، أن أبا بكر الصديق نفى جماعة من الأعراب إلى عيذاب. (وعيذاب مرسى قديم يقع الآن في أقصى جنوب شرق مصر على البحر الأحمر، وقد درس واختفت معالمه)، والراوي لم يذكر سبب النفي، وقد رواها بصيغة الشك، وإن صحت الحادثة فهي قد تكون في أعقاب حركة الردة ضد السلطة المركزية في المدينة.
وفي عهد عمر بن الخطاب نجد أكثر من حالة نفي لعدة أشخاص لأسباب مختلفة، يعنينا منها ما كان إلى شرق أفريقيا، وهي حالتا نفي، الأولى منها جرت لأبي محجن الثقفي عندما نُفي إلى باضع (مصوع حالياً، وهو ميناء في أريتيريا)، وذلك لإسرافه في شرب الخمر. ولقد استطاع أن يهرب من منفاه، ويلحق بسعد بن أبي وقاص في الكوفة، ويبلي في القادسية بلاءً حسناً في قصة مشهورة.
أما حالة النفي الثانية فكانت إلى جزيرة دهلك (هي الآن تابعة لدولة أريتيريا). فقد أمر عمر بن الخطاب بنفي الهرمزان وأصحابه إليها. يقول ابن أبي شيبة (ت 235هـ) في مصنفه: «فسَيَّرَهُمْ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا دَهْلَكَ فِي الْبَحْرِ».
وجزيرة دهلك قريبةً من ساحل باضع ومقابلة له لا يفصل بينهما غير مسافة بسيطة من البحر مقدارها 40 كم تقريباً. وقد كانت هاتان الناحيتان منفى للناس في العصر الإسلامي المبكر، قال أبو الزناد (ت 130هـ): «كان منفى الناس إلى باضع، ودهلَك، وتلك الناحية». ويتبين لنا من الروايات التاريخية أن جزيرة دهلك هي المنفى الأكثر شهرةً في الدولة الأموية وشطرٍ من الدولة العباسية. وبسبب هذه الشهرة، سنقدم تعريفاً موجزاً لهذه الجزيرة.
جزيرة دهلك
تقع جزر دهلك الأريتيرية ضمن أرخبيل يتكون من 126 جزيرة، أكبرها دهلك. وعرفها ياقوت الحموي بأنها «جزيرة في بحر اليمن، وهي بلدة حرجة حارة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها». ومن صفتها الجغرافية نتبين أنها كانت الخيار المناسب لأن تكون منفى للمعاقبين من قبل الدولة، فهي جزيرة معزولة بعيدة جداً عن العاصمة (دمشق، بغداد)، يمكن مراقبتها عن طريق البحرية المصرية التي أولتها الدولة الأموية جل عنايتها، وأنشأت لها مركزاً لصناعة السفن في القلزم. كما أن حالة الجزيرة الطبيعية القاسية تُلبي رغبة الدولة في فرض أقسى عقوبة على المعارضين والمخالفين لسياستها.
ومن شواهد الأدب العربي على بعد جزيرة دهلك، ومشقة الوصول إليها، ما ورد في بيت شعر لأبي المقدام، وهو يؤمل نفسه بلقاء حبيبته:
ولو أصبحَتْ خلف الثريا لزرتها
بنفسي، ولو كانت بدهلك دورها
ويصفها الشاعر أبو الفتح بن قلاقس الذي زارها في القرن السادس الهجري، وكان عليها حاكم اسمه مالك بن الشداد، فيقول:
وأقبح بدهلك من بلدة
فكل امرئ حلّها هالك
كفاك دليلاً على أنها
جحيم وخازنها مالك
والإسلام قديم عهد بهذه المنطقة ونواحيها منذ الهجرة الأولى إلى الحبشة، التي أحسن أهلها استقبال طلائعها المبشرة بدين الرحمة، وقد ساهمت هذه العلاقة الودية إضافةً إلى المصالح التجارية التي تربط بين الساحلين العربي والأفريقي في انتشار الإسلام سلمياً وتدريجياً فيها، غير أن غارات القرصنة التي تعرض لها الساحل الحجازي من تلك النواحي قد عكّر صفواً من هذه المودة، فأُرسلت حملات بحرية بين الحين والآخر تأديباً لهؤلاء العابثين، كان آخرها في عهد عبدالملك بن مروان الذي وضع حداً لتلك القرصنة وأعاد الهدوء للمنطقة.
اشتهرت الجزيرة في العصر الأموي بكونها مركزاً للنفي والتغريب، وأول أخبارها كانت في عهد الوليد بن عبدالملك، حينما أمر بجلد علي بن عبدالله بن العباس (جد الخليفتين السفاح والمنصور) وتسييره إلى دهلك، وذلك بسبب اتهامه بقتل أخيه سليط. ويروى أن سليطاً هذا قد ادعى أنه من ولد عبدالله بن العباس، فأُثبت نسبه، ثم طالب عليّاً بالميراث... وبعد مدة اختفى سليط، وكان أثيراً عند الوليد، فبحثوا عنه ووجدوه مقتولاً ومدفوناً في بستان علي، فاتُّهم في قتله، فأنكر ذلك، فجلده الوليد مئة سوط وأمر بتسييره إلى جزيرة دهلك، وتشفّع فيه رجال عند الوليد منهم سليمان بن عبدالملك، فوافق على حبسه في المكان الذي وصل إليه، فقالوا: ليس بالفلاة موضع. فأذن الخليفة له في نزول الحِجر.
وقد كان للشعراء نصيب من النفي، فقد نفى سليمان بن عبدالملك شاعر المدينة الأحوص الأنصاري إلى جزيرة دهلك بسبب تشبيبه بالنساء، وقد ظل منفيّاً حتى ولي الخلافة يزيد بن عبدالملك، فأعاده من منفاه، ونفى مكانه الفقيه عِراك بن مالك الغفاري، ويقال في سبب نفي الأخير إنه كان من أشد المؤيدين لعمر بن عبدالعزيز في انتزاعه الأموال من أفراد أسرته الحاكمة. ولقد استفاد أهل دهلك من نفي الرجلين إليهما، فتعلموا الشعر من الأحوص، والفقه من عِراك. فمصائب قوم عند قوم فوائد.
كما أن شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة لم يسلم من النفي والتغريب، (فقد رُفع إلى عمر بن عبدالعزيز أنه يتعرض لنساء الحاجّ ويشبب بهن، فنفاه إلى (دهلك) ثم غزا في البحر فاحترقت السفينة به وبمن معه، فمات فيها غرقاً). وتعرضت الرواية إلى تشكيك كبير فصّل فيه وأجاد المؤرخ أسد رستم في كتابه مصطلح التاريخ.
ومن نفي الشعراء وتغريبهم إلى نفي الولاة والقادة، وهذه المرة مع والي خراسان يزيد بن المهلب الذي عزله عمر بن عبدالعزيز وطالبه بالأموال التي غنمها من فتح طبرستان، ولكن يزيد رفض، فأمر الخليفة بإلباس يزيد جبة صوف، وحمله على جمل، ثم قال: سيروا به إلى دهلك، فلما أُخرج مروا به على الناس، فجعل يزيد يقول: ما لي عشيرة؟ يُذهبُ بي إلى دهلك؟ إنما يُذهب إلى دهلك بالفاسق المريب، سبحان الله، أما لي عشيرة؟ فنُصح الخليفة أن يعيده إلى محبسه خوفاً من غضب قومه له، فردّه إلى محبسه.
وتتطور عقوبة النفي والتغريب من نفي أشخاص إلى نفي جماعات في العقود الأولى من القرن الثاني الهجري وذلك مع توسع وانتشار الحركات الفكرية المعارضة للدولة، ومن أشهرها القدرية، التي تمت ملاحقتها من قبل هشام بن عبدالملك، وأوقع بدعاتها أقسى العقوبات، وقد نفى جماعة منهم إلى دهلك، فلما مات هشام وخلفه الوليد بن يزيد، جاءه رجال يتشفعون فيهم، إلا أنه رفض بشدة، وقال: «والله ما عمل هشام عملاً أرجى له عندي أن تناله المغفرة من قتله القدرية وتسييره إياهم».
وتحولت جزيرة دهلك والساحل الأفريقي إلى منفى اختياري بعد هروب الأفراد المنضوين في حركات المعارضة من ملاحقة الأمويين لهم، خصوصاً بعد فشل ثورة زيد بن علي في الكوفة، ففرّ بعض أتباعه إلى سواحل أفريقيا الشرقية، وعاشوا هناك واختلطوا بالسكان وتزوجوا منهم، وعرفوا باسم الأموزيديج.
ومن عجائب الدهر وتصاريف الزمان، أن يصبح المطارِد مطارداً والنافي منفيّاً، ذلك أن العباسيين تعقبوا الأمويين وطاردوهم، حتى اضطر بعضهم إلى الهروب إلى الأماكن التي كانت بالأمس منافي لمعارضيهم، ومنهم عبدالله وعبيدالله أبناء الخليفة مروان بن محمد ووليّا عهده، فبعد مقتل أبيهما في مصر، فرّا مع أنصارهما جنوباً إلى الحبشة، وواجهوا أهوالاً شديدة، وقُتل عبيدالله وعدة رجال معه، أما أخوه عبدالله فاستطاع أن يصل إلى باضع ومنها إلى جدة وظل متخفيّاً إلى أن قبض عليه وأودع السجن... وعبدالله هذا هو الجد السادس لأبي الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، وقد ابتسم الحظ لأحفاده، فأصبحوا من كبار الكتّاب في الدولة العباسية. وممن هرب إلى أفريقيا من الأمويين عمر بن سليمان بن عبدالملك ومواليه، ولحق به أنصاره، وقد توغلوا بأعالي النيل وباضع وشرق أفريقيا. ويقال إن أصل الفونج مؤسسي السلطنة السنارية في السودان في بداية القرن 16م، هم من بني أمية الذين هربوا من العباسيين.
وقد استمر النفي والتغريب كما كان سابقاً إلى جهات دهلك وسواحل أفريقيا الشرقية في العصر العباسي الأول.
ولا يوجد في تراثنا العربي كتاب خاص في أخبار المنفيين إلّا كتاب (المغرّبين) لأبي الحسن المدائني (ت 225هـ)، والكتاب له من اسمه نصيب، فلا يزال مغربّاً منفيّاً مفقوداً!