مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الشعر(تلسكوبنا) الأول

أتحسب أنك جرمٌ صغيرٌ
وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ!
يحكى أن المحقق شيرلوك هولمز ومساعده واطسون، خيّما مرة في البريّة، وبعد مرور القليل من الوقت، استيقظ هولمز بعجالة، أيقظ زميله وسأله: واطسون، هل تلاحظ شيئاً ما؟ نظر واطسون إلى السماء، فَسَرَحَ ثم قال: آه بالفعل، النجوم رائعة الجمال الليلة يا عزيزي. فيردّ شيرلوك: واطسون أيها الأحمق، لقد سُرِقَت الخيمة!
في حقيقة الأمر، سنحاول نحن النظر قليلاً بعيني واطسون الساذجتين، وليسمح لنا شعراؤنا بأن نستعير أعينهم كذلك، فما يراه الشاعر لا تراه كلّ عين، وفي ذلك يقول امرؤ القيس: أصاحِ ترى برقاً، أُرِيْكَ وميضه..، فأسلم عينيك بهدوء عند باب هذا المقال أيها القارئ العزيز، لنرى ما الذي سترينا إياه هذه الجماعة من الجنس البشري.
فلنبدأ!

ضجّ العالم منذ فترة بالصور التي التقطها تلسكوب (جيمس ويب) لجزء يسير من الكون، أو للدقة: ما كان عليه الكون، بعد أن تم نشرها في الإعلام. تنوّعت ردود الأفعال والتعليقات، كما يحدث مع أي حدث عظيم يحصل في العالم. فمن منذهل بالصور بشكل موضوعي علمي، يرفع نظّارته بإصبعه بهدوء إلى أعلى أنفه، مفتخراً بما وصل إليه البشر من تطور، إلى المنذهل من ترسّخ حقيقة حجمنا الضئيل أمام هذا الكون، إلى مشكّك في الأمر تماماً، جالساً في المقهى حوله الناس، معتبراً إياها -الصورة الأولى خصّيصاً- مجردَ تصوير مقطعي لرخامة المَجلى الغرانيت في أحد مطابخ (تكساس).
تبرزُ من هذه الضجة المستثارة، أفكارٌ وهواجس تنثر نفسها في ذهن الإنسان العادي ووجدانه. إن التأملَ في (ملكوت) الكون، يفضي إلى التأمل في القدرة الخلّاقة التي كوّنت كل ذلك، وتقوده هذه في النهاية إلى التأمل في ذاته ضمن هذا النسيج المتكامل. فيسأل المُفكّر نفسه: هل أُعطِيَ هذا الكونُ حقّه من التأمل؟ بل هل أنا قد أخذتُ حقّي كاملاً من التأمُلِ والتفكّر في العالم الذي أنا منه وفيه؟ فالتأمل والتفكّرُ حقٌّ لا يسفُلُ عن سائر الحقوق الإنسانية أهميةً. وإذا تفكرنا، نحن أبناء الحضارة الحديثة، في هذا الشرق خصوصاً، وضجيج الحداثة أو محاولاتها المبتسرة، والمعلومات السيّالة خبط عشواء في كلّ مذهب تلفّنا من كل جانب، نجد لتفكّرنا صعوبةً في التمدد وملامَسَة ما حولنا. إنّ أضواء المدن والأمصار هذه، يسميها الفلكيون تسمية شاعرية هي أقرب للمتأمِل إليها من العالِم البحت ومصطلحاته المتيبّسة، يسِمونها (بالتلوّث الضوئي)، فهل فكّرت يوماً في أن أضواء المدن هي بمنزلة (قمامة) ضوئية، تلوّث الأعين التي ترنو فطرياً إلى السماء والأضواء الطبيعية لا الاصطناعية؟ إنك تكاد تصبحُ ممنوعاً عن النظر في السماء يا صديقي.
وأنت حين أحدّثك عن المتأمّل، لا بدّ أن يخطر لك أمران: العين الناظِرةُ، وحاملُها. ولا بدّ من بعد ذلك أن تعرف أن مِن أفضل الحاملين المستفيدين من حواسّهم هم: الشعراء.
إنني في الحقيقة لا أنوي أن أحدثك عن العلم ولا الشعر ولا فروع وضروب كل منهما، لكن خيطاً يمتد من كل ما ينتجه الإنسان، ومن المطلوب منك أن تتبين الخيط الأبيض من الأسود دائماً في هذا الأمر فتبصر.
فأما النجوم والكواكب، فإنّ علماء الفلك يؤكدون أننا لا نرى سوى ماضيها. أنت ترى الماضي في السماء غالباً، الماضي فوق رؤوسنا كل ليلة، والسماء ذاكرة الكون. وهو، لو دققت، الأمر نفسه في الأدب ومطالعة الكتب. وأما الأدباء والشعراء، فتجد أن الإنسان ظل مشدوداً كوتر إلى قُبّة الأفق، يرى دنياه بمخيلته، سارحة كالشهب والنجوم والكواكب، ولم تكن حاجته لذلك عمليّةً فقط، كمعرفة الاتجاهات وأوقات المناسك، بل كانت حاجةً وجدانيةً وروحية أبداً.
اصعد هذه الليلة إلى سطح المنزل وارفع رأسك، هل في مقدورك أن ترى أحداً ما يخُطُّ حرف (لا) مثلاً؟ أم هل ترى رجلاً أسمر البشرة بذقن ملأها الشيب؟ هل ترى أنواعاً من الأحجار الكريمة، زمرّداً، عقيقاً أو ذهباً؟ هل ترى -بلا مؤاخذة- امرأة سمراء تتجرّدُ وحولَ عنقها عِقدٌ من الدرّ؟ طيّب هل ترى فروةَ نمرٍ مرقّط؟ ربما لم ترَ نمراً في حديقة حيوان، فما بالُ كاتب هذا المقال المجنون يسألك عن نمر في السماء؟ ها؟ ربما رأيت في حياتك أحصنة بطبيعة الأحوال، فهل تبصر أحصنة بيضاء عليها خِلال (أغطية) سوداء تنسلّ عنها، أو غرباناً تطيرُ فزعةً، طيّرها متطفّلٌ أو طائر جارح آخر؟
لم ترَ يوماً كلّ هذا غالباً، لا حرمك الله السماءَ يا صديقي، أنت إذن لم ترَها على حقيقتها، عالَماً بماضيه وحاضره، ومستقبله أحياناً. لقد رأى الشعراء كلّ ما أسلفتُ ذكره، لكنّ المقام لا يتّسعُ لذكر الأمثلة، فابحث عنها إن شئت، أو هاكَ حلّاً أمثل: ارفع رأسك وتأمل بهدوء وسكينة!
***
شغف شعراؤنا وأدباؤنا بسمائهم، بأجرامها، بليلها وصبحها، وما بين التقائهما من التباس لذيذ، فتجد وفرة في الصور التي تتناول النقلة الأوركسترالية من الليل إلى النهار. والشاعر كريمٌ جواد، يدعوك عندما يقعُ على أثرِ لذّةٍ أعمَلَها في صدره مشهدٌ ما، فلا يتوانى عن تنبيهك: (ابن حجّاج - من الكامل):
يا صاحبيّ استيقظا من رقدةٍ
تُزري على عقل اللّبيبِ الأكيسِ
هذي المجرةُ والنجوم كأنها
نهرٌ تدفَّق في حديقة نرجسِ
ثم يستلمك الآخر، مبرراً إزعاج رقدتك: (أبو بكر الخالدي - من الكامل):
ما عُذرُنا في حبسِنا الأكوابا؟
سقطَ النّدى، فصفا الهواءُ وطابا
وكأنما الصبحُ المنير وقد بدا
بازٍ أطارَ من الظلامِ غُرابا
وبعد أن تذهب عنك لوثة النعاس، يخبرك الثالث: (المهذب بن الزبير - من الكامل):
وترى المجرّةَ في النّجومِ كأنّها
تسقي الرّياضَ بجدولٍ مَلآنِ
لو لم تكن نهراً لما عامت به
أبداً نجومُ الحوتِ والسرطانِ
وربّما تكون عاشقاً، فيلجأ الرابع إلى الحيلة كي يمسك بك من الكتف التي تحكّك، فيقول - قاتله الله ما أشعره: (حسين بن المهذب - مخلع البسيط):
كأنّما الليلُ والثريا
تسبحُ في جوّه وتجري
زنجيّةٌ جُرّدَتْ فأبدَت
في صفحةِ الصّدر عِقدَ درِّ
فيفترُّ ثغرك عن ابتسامة رضا. هكذا يسلّيك كل واحد من هؤلاء الندماء، كأنّكَ خليفة عصرك، ويشدّكَ من كمّك إلى مائدته، موائد العيون والافتتان.
فارفع رأسك إلى السماء!
***
إن الذين تابعوا البحث (الموضوعاتي) في الأدب العربي، والمصنفين في هذا المجال، وجدوا وفرةً في الأبواب المتنوعة، وقسموها كلٌّ كما يرى. ومن الأبواب التي لا يكاد يخلو منها كتابٌ، في التشبيهات على سبيل المثال، بابُ وصف النجوم والثريا والمجرة والسماء وما بين ذلك وما تحته. وقد يتخلل هذا التجميعَ شيءٌ من الاستقراء والنقد.
في علم البلاغة مثلاً، ستصادف (عبدالقاهر الجرجاني)، واضع قواعد علم البلاغة، بل وعلم الجمال والتذوق الأدبي للصور الشعرية العربية، وسَتَجِدُنا مدفوعين لنمدّ أيدينا طلباً للمساعدة في تذوق بعض الصور التي وهبنا إياها الشعراء، علّهم رؤوا غيثاً فيما رأيناه قطرات من (مطر صيف) كما تقول الأغنية العراقية.
إن المدقق في شواهد عبدالقاهر الجرجاني البلاغية، يجدُ الكثير من الأمثلة الشعرية التي أسس عليها قواعده، وحللها خير تحليل، هي الصور التي تناولت السماء والنجوم والكواكب، وكانت عنصراً أساسياً في الصور، تشبيهاً كانت أم استعارة. فهل يكون هذا الأمر وليد الصدفة؟ إن قارئ كتب واضعي العلوم يعرف تماماً ألّا وجود لكلمة أو قِسمة إلا وهي موضوعة في ميزان دقيق يكشف من التدقيق والعلم ما يكشف ويُغْني، فكلمةٌ تهوي بصاحبها في جهنم سبعين خريفاً، تقابلها كلمةٌ تصعدُ به في السماوات سبعين ربيعاً. نجد هنا عالم البلاغة كعالم الفلك، يحتجُّ بالحقيقة المشهودة والمرئية رأيَ العين ليعطي الحكم بأفضلية صورةٍ على صورة، فأقربها للحقيقة في التحليل أقربُها للأفضلية وأغرب معانيها -والكون أبو الغرائب- أعجبها للنفس الحساسة. خذ مثالاً هذا البيت:
وكأنّ أجرامَ النجومِ لوامعاً
دُررٌ نُثِرنَ على بِساط أزرقِ
استدلّ عبدالقاهر، بهذا البيت وغيره من جنسه، على قواعد بلاغية عديدة، ولم يكد يخلو باب بلاغي من ذكرهِ وما هو في جنسه، هذا البيت الذي استفزّ مشبَّهُهُ -وهو النجوم هنا- الشاعرَ، فحاول الجرجاني استنباط أسباب الحسن والطبع السليم من ذلك، فيجد أن الشاعر الذي سَبقَ إلى هذا النمط من التشبيه (أحرز غاية لا ينالها غير الجواد، وقَرطَسَ في هدفٍ لا يُصابُ إلا بعد الاحتفال والاجتهاد)، أما ترى أن الفضل في هذا التشبيه راجعٌ إلى (الاجتهاد) على حد تعبير الجرجاني؟ والاجتهاد هنا كالاجتهاد المطلوب في علم الفلك نفسه، حيث إن الحقيقة واحدةٌ والعلوم شَتّى، والناس كثيرٌ والإنسان واحد. أما تظنّ معي أن الجرجاني نظرَ إلى السماء أيضاً ليتأكدّ من صحة هذا التشبيه، وإن قلت إن الشعراء (يقولون ما لا يفعلون)، فإن المتأمل الحق يفعل ما يقول وما قيل.
ثم انظر هذا البيت في باب آخر متكرراً بحٌلّة علميّة أخرى، إذ يقول فيه عبدالقاهر: (وذلك أن المقصود من التشبيه أن يريكَ الهيئة التي تملأ النواظر عجباً وتستوقف العيون وتستنطق القلوب بذكر الله تعالى من طلوع النجومِ مؤتلفة مفترقة من أديم السماء وهي زرقاء زرقتها الصافية التي تخدع العين، والنجوم تتلألأ وتُبرقُ في أثناء تلك الزرقة..). إن كلّ ما قد تجده مفترقاً هو مؤتلفٌ في باطن الأمر، يرى الشاعرُ ذلك، ويدعوك بيانه لتتأكد من الأمر، يشدّ على يده الناقد المتبصّر. ما تسكت عنه الحاسّة مقصّرة أمامه، يستنطقهُ القلب ثم ينطقُ بحقّه.
فارفع رأسك إلى السماء!
***
هذه أُلفَةُ الكون، وأنتَ مدعوّ أبداً إلى هذا المهرجان. السماء الحاضرة تريك ماضياً، كذلك الكتاب الحاضر بين يديك بأدبه وشعره، ماضياً حيّاً، وأنت ترى العظمة في شسوعِ الكون، لكن الشسوع الذي فيك قد يكون أعمق بكثير، ومن سطح منزلك ارفع رأسك إلى السماء، وحدّق بنظرة ثم اقرأ معي -من أجلي على الأقل يا عزيزي- وردّد:
أتحسبَ أنّك جرمٌ صغيرٌ؟
وفيك انطوى العالم الأكبر

ذو صلة