مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

رائد حركة الشعر الحديث في الإمارات.. الشاعر المدني تقدّم على زمانه فعانى من الوحدة

| لاتدعْني في انتظاري، طاوياً جرحي وآلام انكساري، في جموع الناس أمضي، حاملاً حبي وبُغضي، كيف ترضى بانهياري |
أحمد أمين المدني، من (أشواق دامعة)


عندما التقيناه في فندق بالشارقة في الثمانينات، كان الدكتور أحمد أمين المدني قد انتهى من أسفاره الكبرى الرئيسية منها، وتلك المتعلقة بالدراسة، ودائرة الضوء المعرفي والإعلامي التي اتسعت لتجعله واحداً من أبرز الشعراء في منطقة الخليج والجزيرة العربية، في ذلك الوقت المبكر من عقد السبعينات، التي وصل إليها صاعداً متوثباً، مترعاً بالثقة، وممتلئاً بالمعرفة والمكنة الأدبية، والآمال والأحلامِ والمبادرات، فلقد بدأ صعوده من العام 1958م، العام الذي كان يتهيأ فيه، بين من اصطفوا للتخرّج في جامعة بغداد العريقة، ليكون مجازاً في الشريعة، والقانون المقارن، والعلوم العربية، مروراً بجامعتي كامبريدج وأدنبره البريطانيتين، حيث درس الفلسفة الإسلامية، والسوربون الفرنسية التي درس فيها اللغة الفرنسية والحضارة. وتعد تلك المرحلة التاريخية -الخمسينات والستينات- مرحلة ذهبية في أوروبا الخارجة من الحرب العالمية الثانية التي أنهكت العالم، حالمةً بما سوف يكون بعدها من إرهاصات انتهت إلى تشكيل العالم الجديد، مما اعتبر فرصة فارقة، قل ما يجود بها الزمان، على شاب وضع قدمه لتوه على عتبة الباب الكبير للمعرفة والثقافة، ونسج العلاقات مع أسماء كبيرة، شكلت في وقتها أركان الفكر الحديث للعالم الجديد، فكر ما بعد الحرب العالمية الثانية. كل هذا، كان قد عرفه الشاب المتوثب، يدفعه الحماس والتعطش إلى المعرفة بشتى مجالاتها، وتدفعه أحلامه الكبيرة التي لا حدود لها.

فهم الحداثة ونظّر لها في المنطقة
في بداية عقد الثمانينات، حيث كان لقاؤنا به غرضه التعارف فقط، لذلك فقد خلناه لن يتعدى الدردشة الثقافية والصحفية، وحينذاك، كانت قد سبقته أخباره إلى الأوساط الثقافية والمنتديات الأدبية والفكرية والبحثية، والأهم إلى المكتبات العربية، على أجنحة عدد من مؤلفاته الأدبية كـ(حصاد السنين، 1968)، و(أشرعة وأمواج، 1973)، و(عاشق لأنفاس الرياحين، 1990)، وكانت قد لامست أشعاره في بواكيره الأولى، كلها أو بعضها، الحداثة الشعرية على أصولها، ومن جذورها، وليس عبر الترجمة العربية التي شوهت الكثير من دقائقها ومفاهيمها، عبر الخلط في تفاسير مصطلحاتها. ليصبح شاعرنا المدني بعد وقت مبكر وقصير، أحد رواد حركة التجديد الأدبي في الإمارات، وتحديداً في الشعر، بل رائداً في منطقة الخليج والجزيرة العربية، وعاملاً أساسياً في انتقال حركة التجديد وشعر التفعيلة، إلى الشباب، مسهماً بشكل فاعل في حداثة الشعر في الإمارات. إضافة إلى أنه مثل أحد أهم رواد الحداثة على المستوى العربي، في النصف الثاني من القرن الماضي، لينضم بذلك إلى مجموعة من الشعراء العرب، كالشاعر محمود درويش، أدونيس، يوسف الخال، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، على الرغم من اختلاف الناس في المنطقة العربية على مفهوم الحداثة في الشعر تحديداً، بين مؤيد ومعارض، وثالث بينهما، يؤيد الحداثة لكنه لا يقبلها بالكامل. ورغم جرأة الشاعر المدني، فيما أقدم عليه بثقة في صناعة الشعر الحديث، إلا أن بعض قصائده، وفقاً للنقاد، لم تخل من تلك الغنائية التي أضفت على أشعاره المبكرة جاذبية لا تقاومها الأُذن التي كان قد ألفها جيداً.

منهجه في كتابة البحث والتاريخ
في الثمانينات، التي جمعتنا به، كانت قد سبقته أيضاً بعض مؤلفاته البحثية، من بينها (التركيب الاجتماعي الديني، والشعر الشعبي في الإمارات، ودراسة في الأدب الأندلسي)، وربما هنالك أكثر من ذلك، قد يفاجئنا به مهتم بالشاعر ونتاجه غير المطبوع. وفي بحوثه التي نحت نحواً تاريخياً، كان ما يحسب له فيها، أنه يعتمد على تفاسير للتاريخ، لم نعد نعهدها لدى كتّاب التاريخ في الوقت الراهن، فهو على سبيل المثال، ينأى في بحوثه التاريخية عن تفاسير الجغرافيا والزمان بصفتهما مسرحاً للأحداث، وتزميناً للحدث، ليميل إلى تفسير التاريخ بصفته كائناً حياً كما البشر في تطوره وانحداره وضعفه، تماماً كما يمر الإنسان في أطواره الطبيعية، على أن هذا التفسير يتضافر مع تفسير آخر تلمسه فيما كتبه عبر مؤلفاته البحثية تحديداً، وهو التفسير العلمي للتاريخ، الذي تتداخل فيه الأحداث مع بعضها بعضاً، الحضارية والمادية والطبيعية، مما ينجم عنه نظرية شبه شمولية، وتلمس الجانب الأدبي في منهجه التاريخي، تلك الحركة الإنسانية، وتذوق تجلياتها في الأدب ومحوره الإنسان.
قلنا إنه كان قد انتهى من أسفاره الرئيسية تلك، التي انصرفت إلى اكتساب العلم والمعرفة، والانتشار والتألق، والتفاعل في أكثر من ساحة. أما رحلته الحياتية - المهنية، تلك التي كانت بالنسبة له محض ثانوية، هكذا كان ينظر إليها، إذ لم يكن يعيرها اهتماماً ذا بال، ونعني بها الوظائف التي تبوأها، وكانت مصدر عيشه الوحيد كما نعلم، وميدانها القطاع العام في دولة الإمارات، إذ بدأها مدرساً، ثم محرراً ومعداً للبرامج في إذاعة صوت الساحل من الشارقة، ثم أمينا للمكتبة العامة في دبي، فمترجماً لدى جهة حكومية، إلى جانب الكتابة المنتظمة إلى الصحف والمجلات، المحلية والعربية، في بغداد والقاهرة وبيروت وغيرها، ولا أستبعد أنه كان يكتب في الصحافة الأجنبية، وبخاصة البريطانية، وهذه مسألة نضعها هنا، كونها تحتاج إلى باحث يتحقق منها.

بحر معرفي بلا شواطئ
حينما التقينا، هو ونحن - مجموعة شباب - نتطلع إليه كقامة كبيرة، كان قد انتهى فعلياً، واكتفى من أمور كثيرة، كما أسلفت، فبدا لنا حكيماً معرفياً، وأديباً مُفلقاً في الشعر، وفي اللماحة والإبداع، بدا لغوياً من الدرجة الأولى، يقبض على ناصية العربية، إشارة ودلالة، وطرائق استيلاد عذوبتها، عارفاً بمواضع استخدامها المؤثرة في الشعر، وفي سياقات النثر، خارجاً بذلك على التقليد في الكتابة الأدبية والشعر تحديداً.
في ذلك اللقاء، تجلّى لنا الدكتور أحمد أمين المدني، بحراً معرفياً بلا شواطئ تحدّه. وكانت تلك الجلسة في فندق كارلتون الشارقة، الذي لا يزال في مكانه على شاطئ البحر، بمنطقة الخان.. كانت من الأهمية بمكان بحيث أتذكر الموضوعات التي طرحنا وتناقشنا بها، لكن ربما لاحقاً نعرض لها في مقام آخر مختلف، ونبسطها للإفادة.
لقد كان ذلك اللقاء هو الأول لي بالمفكر والأديب الشاعر المدني، برفقة زميل المهنة، وحرفة الأدب، الصديق عبدالحميد أحمد. كنّا وقتذاك، شباباً نتلمس دروبنا في الحياة، نتفحص أفكارنا وقناعاتنا، ونسعى جاهدين إلى تجويد عملنا في بلاط صاحبة الجلالة، الصحافة المكتوبة، ونجرب في نصوصنا الأدبية، القصة القصيرة تحديداً. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الشاعر المدني كان، هو الآخر، من كتّاب مجلة (الأزمنة العربية) الأسبوعية، التي كانت تصدر في الشارقة، صباح كل يوم أربعاء، في الفترة من 1978-1980 تقريباً. وكذلك كان عبدالحميد أحمد، أحد أعمدتها الرئيسيين، وآخرون كبار معه بالطبع، وعبدالحميد هو الذي عرّفني على الشاعر المدني، وحدثني عنه قبل اللقاء، لكني كنت قد قرأت له الكثير، من قصائد ومقالات، سواء المنشور منها في مجلة الأزمنة العربية، أو تلك في الصحف المحلية من بينها صحيفة الاتحاد اليومية.
كان لقاؤنا بالمدني، قبل انقطاعه بقليل، عن أي عمل في الخارج، إذ انقطع مختاراً عن كثير من الأمور والشؤون في الخارج، هذا الخارج الذي لم يستقر فيه بأي عمل، لا في دائرة ولا في مؤسسة، عامة كانت أو خاصة، كان المدني كثير التنقل بين مختلف الأعمال والوظائف التي تبوأها، لأمر ما كان في نفسه، لا يدري ما سره إلا هو، وكان يقدم على ذلك بكثير من الرضا، ومن دون ذلك القلق المشروع، الذي قد ينتاب أي شخص عندما يتخلّى فجأة عن الوظيفة، وتكون مصدر عيشه الوحيد. ترى، ما سر ذلك الرضا الذي دائماً ما كنت تراه بادياً على محياه؟ تلك قصة تحتاج روايتها إلى استحضار ابن عربي في خلواته. هكذا كان المدني، إذا ما غادر مكاناً، وخطا للأمام في الحياة، لم يلتفت إلى الوراء، وإن للوداع. هكذا قرأته ساعة التقيته، محاولاً تكوين فكرة عنه أكثر عمقاً مما فعلنا من قبل.

ندرة صفاء الآخر دفعته للوحدة
كان في ذلك كله ينشد الهدوء، والسكينة، والمراجعة عبر رحلة في الداخل، بعد أن ألمَّ بجزء من الخارج، ورحلة الداخل سوف تكون الأصعب والأهم، والأكثر تشعباً من الرحلات الأخرى في جغرافيا الحياة وتضاريسها، لعل السبب في ذلك، هو مطلب التركيز على شغفه الأول، الأدب في جانبه الأثير لديه: الشعر. ليأتي بعده بالدرجة الثانية، الدراسات البحثية على اختلاف طبيعتها، وقد قال بعض المهتمين بسيرته الثرّية، في وصف مغزى تنقلاته، التي تتقاطع بشكل ما، مع تنقلات أبي الطيب المتنبي في الجغرافيا بين الحواضر العربية، قالوا إن من خلالها كان يحرص على «ترسيخ تجربة ما كان يريدها، أو كان مضطراً للمرور بها، لكن وقتاً قد حان، كما فُهم من خطواته السابقة، وقراراته الحاسمة والمفاجئة، كان عليه أن ينقطع فيه عن أي عمل، سوى نفسه، يراجعها ويتفقّد قوتها ونقاط التحسين فيها، وسوى أفكاره، يُخضعها للمساءلة والمراجعة ربما، لا حذفاً لها بقدر تشوّف إمكانية التعميق وإضافة الجديد».
وفي أيامه الأخيرة، كنت تشعر أن شاعرنا المدني كان يحتاج إلى مزيد من الاهتمام، إلى شيء من الأضواء التي كانت تغمره بالأمس القريب، إلى حضور يلقي عليه بعضاً من قصائده، فيتفاعل معه، لنتأمل من جديد:
«لاتدعْني في انتظاري، طاوياً جرحي وآلام انكساري، في جموع الناس أمضي، حاملاً حبي وبُغضي، كيف ترضى بانهياري».
واضح أنه كان ظمئاً، لكن «وأي الناس تصفو مشاربه».. بشار بن برد.

كتب احتفت بالشاعر المدني
ثمة كتب احتفائية صدرت في الإمارات، تناولت بعض المنعطفات المهمة في السيرة الثرية للدكتور أحمد أمين المدني، من بين أهمها كتاب بعنوان (أحمد أمين المدني في آثار الدارسين)، لمؤلفه الصديق الأديب والباحث أحمد محمد عبيد، وهو جهد كبير جاء دقيقاً، ويحمل جديداً للشاعر المدني لم يكن معلوماً من قبل، الذي طبع على نفقة الكاتب والأديب عبدالغفار حسين، وبالمناسبة، هذا الكتاب ليس هو الأول الذي يتكفل بطباعته الأستاذ عبدالغفار حسين، إنما هنالك العديد من الكتب التي أسهم في رؤيتها للنور، وطباعتها على نفقته الخاصة، شهدتها المكتبات، وتفاعلت معها الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات المحلية.
وكما لو كان تفريعاً من الكتاب ذاته (المدني في آثار الدارسين)، صدر كتاب آخر حمل اسم (قصائد ضائعة 2001) مخصص لقصائد المدني الجديدة، غير المنشورة، كان قد حصل عليها المؤلف نفسه، أحمد محمد عبيد، وقدمها بأمانة مهنية لافتة، يشكر عليها، وتحسب له في سجله البحثي الرصين. وفهمت أن هنالك ديواناً جديداً يحمل قصائد وجدت مؤخراً للشاعر المدني، في طريقه للصدور.

شعراء عرفهم وجلس إليهم
تأثر أحمد المدني بالعديد من الشعراء الرواد الذين كانت تربطه بهم صلات مباشرة، (وصرف وقته في ملازمة الشاعر مبارك العقيلي، وكان يحضر مجالس مبارك العقيلي، والشاعر أحمد بن سليم، والأديب الكويتي عبدالله الصانع، إضافة لحضوره الدائم للمجلس المهم واليومي في دكان مبارك المسقطي في شارع سوق الذهب، والذي كان يجتمع فيه العديد من كبار الشعراء والأدباء والمثقفين، يتدارسون ويتناقشون ويتناشدون الشعر، وكان منهم: مبارك العقيلي، أحمد بن سليم، عبدالله الصانع، عبيد التاير، خليفة بن سعيد المطروشي، الشيخ راشد بن بطي آل مكتوم، راشد بن سعيد يابس راس، من عمان، والشاعر خلفان بن يدعوه، والسيد هاشم الهاشمي، والشاعر محمد بن زنيد وغيرهم).

ذو صلة