مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

تفكيك الصورة من منظور الحواس

كيف تلعب حواس الأديب في كتابة النص؟ ومن أي مكان ينظر إلى الأشياء؟ وبالتالي كيف نفهم النص من خلال هذه المنظورية؟
أسئلة يثيرها كتاب: (المنظورية والحواس في تفسير النص) للشاعر العراقي صلاح نيازي، ويحاول أن يجيب عنها من خلال نصوص شعرية عربية وأجنبية.
الكتاب يقع في (126) صفحة، صدر عام 2017م عن دار المدى، وهو في الأصل مقالات كتبت في أوقات متباعدة، ولكنها تحمل رؤية نقدية واحدة، لذلك عمد نيازي أن يجمعها في كتاب.
يمارس نيازي قراءته للشعر بتطبيق معيار الحواس في توضيح الصورة الأدبية في نصوص عربية، وأخرى مترجمة للعربية، ولم يكتفِ بالشعر فقد انتقل بالتطبيق إلى نصوص ملحميَّة ومسرحية وقصصيَّة، حتى أنه وقف على سورة التكوير، ليكشف لنا قيمة هذا المعيار في كيفية تكوُّن الصورة الأدبية وانسجام هذا المعيار مع التفسير.
الأسماء التي استشهد بها في كتابه جاءت من أزمنة وأمكنة مختلفة بدءاً من امرئ القيس إلى المتنبي وشكسبير وهيلدرلن ودانتي وبوتشي وأحمد شوقي والجواهري، وانتهاءً بيوسف إدريس.
يعتقد المؤلف أن مصطلح المنظورية والحواس في تفسير النص ظهر في عصر النهضة، وفي الفنون التشكيلية الأوروبية تحديداً، ولاسيما الإيطالية، فهو لم يوضع موضع التطبيق من قبل، ولأنه أرض بكر، فلا بدَّ من معالجته بحذر، وفعلاً كانت معالجته تسير بثبات وسيطرة على المسك بأداته المعيارية، وبالتالي فإن أهمية الكتاب تأتي من هذه الجِدَّة، والقراءة التي فتحت لنا آفاقاً أخرى في تفسير النص الأدبي، فنيازي يؤكد أن المنظورية انتقلت من الرسم إلى عدسة التصوير في الكاميرا السينمائية، إلا أنها لم تدخل في المصطلحات النقدية.
ينقل لنا تعريفاً للرسم المنظوري: (فن رسم الأشياء بطريقة تحدث في النفس عين الانطباع (من حيث الأبعاد النسبية والحجم إلخ) الذي تحدثه هي ذاتها حين ينظر إليها من نقطة معينة).
بالانتقال إلى مواضع التطبيق يرى نيازي أن امرئ القيس في قوله: (قفا نبك..) لا يخاطب خليليه بالتفسير التقليدي للنص، بل يرى أن شخصية امرئ القيس انشطرت نصفين، من هول ما رأى، فالشاعر يعبِّر عن هذه الحالة من خلال انفعال حواسه بالمكان الذي أصبح موطناً للذكريات والحنين.
ومع المتنبي يرى أن زاوية النظر في قصيدته جاءت من أسفل إلى أعلى من خلال وصف قلعة (الحدث الحمراء)، أما بالنسبة لقلعة (دنسينان) في مسرحية (مكبث) فزاوية النظر من الداخل، فهي عكس نظرة المتنبي الخارجية، ويرى أن شكسبير والمتنبي أكبر شاعرين غريزيين حيث يسكب الشاعر عواطفه إلى إحدى حواسه الخمس.
وهكذا يدخل نيازي في مقارنات صورية من حيث وقوف الشاعر على المكان وزاوية نظره ليفسّر حضور الألوان والأشكال من حيث البعد، والقرب، وحركة الرؤية تدريجياً، أو خطفاً.
وفي مسرحية (هاملت) يتحدث عن حاسة الشم وكيف بلغت أقصى تعقيداتها وتحولت لأداة تعذيب في المسرحية؟
ويرى أن (رامبو) يعمد إلى تدمير الحواس أي إلى مزجها أو صهرها جميعاً، فتظهر لنا صورة شعرية متواشجة مؤثرة وكثيفة.
وفي سورة التكوير يستبعد تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ) بالنوق الحوامل استناداً إلى منطق الحواس وحركة النظر إلى الأعلى حيث بدأت السورة بالشمس والنجوم والجبال، فمن المنطق أن يكون تفسير العشار بالسحاب لأن حركة النظر ما زالت في الأعلى.
الشواهد والتفاصيل كثيرة، ولكن ما يشدك في الكتاب الموازنات التي لا تخلو من إدهاش، ومتعة، والقدرة في تفعيل الحواس ليصل بك إلى كشف جديد.
هذا الذي أسماه نيازي بالمنظورية لم يكن منهجاً جديداً، وإنما أداة تمت استعارتها من فنون أخرى لتجرّب إعادة قراءة الصورة في العمل الأدبي كما تظهر للأديب من حيث نسبية القرب والبعد والداخل والخارج والأسفل والأعلى، فبعد أن كانت الصورة في المناهج الأخرى نكتشفها من منظور فنّي، أصبحت هنا تتجلى لنا من خلال حاسة معينة تقوم على تشكيلها من بُعد معين، وبالتالي فإن التفسير سيكون جديداً على القارئ.

ذو صلة