مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

التوأمان: الريادة في الوعي بالآخر

حفلت الرواية العربية بعدد من النصوص التي عالجت موضوع العلاقة مع الغرب، فمنذ بواكير أعمالها اتجه فرع أساسي من الرواية العربية نحو التعاطي الحصري مع ما سماه جورج طرابيشي إشكالية الأنثروبولوجيا الحضارية، أي إشكالية العلاقات ما بين (الشرق) و(الغرب) -حسب تسمية أكثر كلاسيكية. وعلى المنوال ذاته وُلدت الرواية السعودية متلفتةً إلى آخَرها الحضاري، ابتداء بصدور أول رواية سعودية وهي رواية (التوأمان) لعبدالقدوس الأنصاري عام 1930م، مع بدايات التحولات الكبرى للمجتمع السعودي وثقافته ومؤسساته إبّان توحيد الدولة، وما رافقها من بوادر انفتاح ثقافي واقتصادي وحضاري، بعَث على الحذر والتوجس لدى فئة غير قليلة من المثقفين الرواد من مغبة ذاك الانفتاح. وكان ذلك ردّ فعل مبرّراً في بلاد تعلن الإسلام شريعة لها ودستوراً، ويغلب على مجتمعها المحافظة والتمسك بالتقاليد.
لا يمكن إغفال الدلالة الثقافية الجلية في تأليف عبدالقدوس الأنصاري رواية (التوأمان)، إذ كتبها وهو يعي تماماً أبعاد المغامرة التي يرتكبها بإيجاد روايةٍ من ذلك العدم الأجناسي في محيط الجزيرة العربية كافة، وفي المحيط العربي إلى حد ما. ورغم وعيه بضعف أدواته السردية التي لن تسعفه في كتابة عمل يستحق أن يسمى رواية؛ أصرّ على تجنيسها بأن كتب على غلافها الخارجي وفي مقدمتها (أول رواية صدرت بالحجاز)، واضعاً إياها ضمن جنس الرواية، مع سابق الإصرار والوعي بما يفعل، وكأنه كان يعلم -وهو مثقف واسع الاطلاع- أن أوائل نقاد الرواية في أمريكا وأوروبا أخذوا يؤكدون -حسب والاس مارتن- على أهمية النوع الأدبي (الرواية) في زمنٍ كانت فيه دعاوى الجدارة الأدبية مبنية على تحليل الشكل، وطالما استمرت مناقشات الرواية تؤكد على موضوعها، ومحتواها، متجاهلة قضايا الشكل التي كانت حينذاك مهمة في النقد وعلم الجمال.
لربما سماها عبدالقدوس روايةً لعلمه أن الرواية في ذلك الوقت لم تكن تحفل بشكلها الفني قدر عنايتها بالموضوعات والقضايا التي تعالجها والأدوار التي تضطلع بها في مجتمعاتها وثقافاتها. لقد كانت (التوأمان) فعلاً ثقافياً تنويرياً، مخالفاً للقيم التقليدية المنغلقة السائدة، إذ كانت تتغيّا الإصلاح الاجتماعي، وتدعو إلى وحدة الهوية السعودية الداخلية، وتعزيز الانتماء الوطني، ونبذ الولاءات القبلية والصلات القرابية أو المناطقية أو الجهوية، وصياغتها ذاتاً واحدة في مواجهة الآخر الخارجي الذي يحوم حول الجزيرة العربية وحول العالم كله، محتلّاً أو غازياً ومستعمراً بالعسكر أو بالأفكار، وهنا يكمن وعي المثقف، وجرأته في أداء رسالته.
لقد كان عبدالقدوس الأنصاري حداثياً في مقدمته أكثر منه في روايته، إذ وردت في مقدمته إشارات عديدة تعزز وعيه المبكر بالهوية وبالآخر، حيث بدا واعياً بضرورة تعزيز الهوية الوطنية وخطر الفكر الاستعماري وأدواته، إذ يقول: (وبدهيّ أن الفتح الأوروبي إنما اعتمد في توسعه وانتشاره على سلاحين: الدعاية القلمية والآلات الجهنمية). موضحاً أن الروايات المنسلخة من الأخلاق تأتي ضمن السلاح الأول. وفي سعيه للإصلاح نجده يتوسل بجنس أدبي حداثي غربي، بهدف (مقاومة تيار الفساد من نفس طريقه (...) كالتحرير في بعض الأحيان على الأسلوب الروائي) -كما قال.
ومما يدل أخيراً على وعيه وإدراكه الشمولي لمسألة الآخر الغربي؛ قوله عن روايته: (وليس من مقاصدها ألبتة الإغراء بجفاء العلوم والفنون التي قد ضربت فيها (أوروبا) أخيراً بسهم وافر.
لا. لا. لا يتسربنَّ ذلك إلى ذهن غبي لا يتدبر... فهذه قد كانت منا ولنا، فيجب إذاً أن نسعى سعياً حثيثاً متواصلاً لاقتناصها منهم وردّها إلى مهدها الأول. ولكن بذيّاك الأسلوب القويم المدمج بمدنيتنا، السائر على مقتضى تقاليدنا نحن).
ثلاث لاءات ناهية، ونونٌ مضعّفة، ووصمٌ بالغباء لمن يَفهم من حديثه تحريضاً على العداء أو العنف تجاه الآخر، وتأكيدٌ على الأسلوب المتمدن الموضوعي الحضاري، الذي يتأسس على قيم الدين والوطنية. لقد صاغ عبدالقدوس وعياً مبكراً عميقاً بمسألة الذات والآخر في هذه المقدمة التي تعد عتبة نصّية مهمة جداً، ونصاً موازياً يرفد دلالات النص الأصلي، ولا يقلّ في الأهمية عنه.
لقد حظيت (التوأمان) بدراسات عديدة رأت لها فضل السبق التاريخي، ووسمتها بالتقليدية ورفض الآخر، لكنني أرى أن هذا حكم متعجّل غير دقيق، إذ شكلت (التوأمان) -في نظري- بذرة الموقف التأسيسي للذات الروائية السعودية تجاه الآخر، الذي امتدّ أثره إلى الأعمال الروائية التي صدرت بعده كرواية (البعث) ورواية (فكرة) الصادرتين عام 1948م، ثم رواية (ثمن التضحية) الصادرة عام 1959م. وهو موقف لم يكن سلبياً تماماً كما شاع عند معظم الدارسين؛ بل ظهر موقف الذات في (التوأمان) محايداً ومعترفاً بالآخر، داعياً إلى التواصل معه وأخذ ما لديه من الإيجابيات ورفض ما لديه من السلبيات مع الحفاظ على المكونات الهويّاتية للذات المحلية، وفق أسلوب متمدن متسامح قويم، بعيد عن التطرف في الإلغاء والإقصاء أو في التماهي والذوبان.

ذو صلة