مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المواطنة وروح المسؤولية

المحافظة على الهوية، وترسيخ الانتماء الوطني، من العوامل التي تحرص عليها كل الدول، لضمان الولاء للوطن والإسهام في حراكه التنموي، والدفاع عنه بكل الوسائل والأساليب، لدرجة الإيمان، وقد قيل إن حب الوطن من الإيمان، ولكنه إيمان يرتبط دائماً بمقدار ما يقدمه الوطن لمواطنيه من حياة حرة وكريمة، فالوطن بمعناه (الرومانسي) لا تكتمل صورته الجميلة إلا بمقدار ما يحققه الوطن (الواقعي) لمواطنيه من عطاء يستوجب الوفاء والتضحية والدفاع المستميت عن كل منجزاته ومكتسباته، وكل منجز لا يهم المواطن يعتبر عبثياً وحملاً ثقيلاً على نفوس المواطنين، وهدراً للثروة الوطنية، وما يخدم الوطن والمواطن هو الهدف الأساس للدولة، في كل مشاريعها التنموية وسياستها الإنمائية، وإستراتيجيتها السياسية، والمواطن هو محور التنمية وهدفها الأساس، لذلك تصبح مشاركته في البناء التنموي من أوجب الواجبات، دون مساومة أو خلاف، باعتبار هذه المشاركة أول شروط الانتماء الوطني، وفاءً لما يقدمه الوطن لأبنائه، فالوطن شجرة وارفة الظلال عليك أن تشارك في سقياها قبل أن تطالب بنصيبك من ثمارها.
لكن بعض المواطنين وفي كل الأوطان، يعتبر انتماءه الوطني مكسباً شخصياً يتباهى به أمام الآخرين، وقد تدفعه هذه النظرة إلى اعتبار غيره من غير المواطنين أفراداً أقل منه شأناً، ليس بحكم ما يضمنه له القانون من امتيازات وحقوق وطنية، هي من حقه دون جدال، ولكن فقط بحكم انتمائه الوطني المجرد من كل معاني الانتماء الحقيقي، مع أن الوطنية الحقيقية لا تتحقق بمعناها العام بمجرد حمل بطاقة الهوية، ولكنها تتحقق بمعناها المتجرد من الأنانية بالمشاركة المجتمعية والوطنية في البناء التنموي، وهؤلاء الذين تتلبسهم حالات حادة من الفوقية تجاه الآخرين لا يمكن أن يخدموا أوطانهم، بل هم يسيئون إليها عن قصد أو عن غير قصد، وكثيراً ما تدان الأوطان نتيجة تصرفات بعض أبنائها الذين لم يقدروا نعمة انتمائهم لأوطانهم، ولم يحترموا غيرهم من البشر، وكأنهم خلقوا من كوكب آخر، عندما تعتريهم حالات الشعور بالفوقية تجاه غيرهم، ويسكنهم هاجس التفرد والتميز، لا عن طريق أي منجز حضاري حققوه أو يحققونه على المستوى الفردي، ولكن عن طريق أوهام رسخت في أذهانهم عن حقوق المواطن - دون واجباته - وهي أوهام تتناقض مع المفهوم الحقيقي للانتماء، مع أن كل حقوق تقابلها واجبات، وبإهمال هذه الواجبات تنتفي تلك الحقوق، وحينها يصبح هذا المواطن أداة تعرقل الحراك التنموي في بلاده، وقد تدفعه هذه النظرة الفوقية إلى ارتكاب ما لا يغتفر من الأخطاء ضد وطنه ومواطنيه. وفي جميع الأوطان ودون استثناء ربما كان بعض الوافدين أكثر وفاءً من بعض المواطنين الفاقدين لدورهم الوطني.
وحتى لا تصبح الوطنية عقدة تتحكم في تصرفات المواطن لمجرد حمله لبطاقة الهوية، لا بد من ترسيخ معنى هذه الوطنية من خلال عدة مسارات منها التربية القائمة على ترسيخ حب الوطن في أذهان الناشئين، ومنها الإيمان بإنسانية الإنسان والحكم عليه بمقدار ما ينجزه من عطاء في مجال عمله، مع التخلي عن تضخم الذات والنظرة الفوقية للآخر، ولأن لكل فعل رد فعل، فإن ذلك يولد أحياناً نظرة فوقية أخرى من ذلك الآخر، عندما يحكم على كل المواطنين بناء على تصرف فردي وغير مسؤول.
ما يحتاجه الوطن هو النظرة الإيجابية للواقع، والتعامل مع هذا الواقع بروح عالية من الشعور بالمسؤولية، والقيام بالواجب في إطار المصلحة العامة التي تتبناها الدولة ويسعى لتحقيقها المواطنون.

ذو صلة