مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

طريقك إلى العالمية يمر عبر المترجم

لا شك في أن حصول الكاتب الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب عام 1988، قد أسهم في تنشيط حركة الترجمة من الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية كما ورد في صحيفة الخليج في عددها بتاريخ الأول من سبتمبر 2014.

لكن على الرغم من عبقرية نجيب محفوظ الأدبية وغزارة إنتاجه، إلا أن النجاح الذي حققه لم يكن تزكية لكتاباته العربية، بقدر ما كان اعترافاً بالنسخ المترجمة إلى اللغات الأجنبية. لا بل أشار بعض النقاد العرب إلى أن روايات نجيب محفوظ العربية تعتبر موغلة في المحلية، تضج (بلغة الحواري، والكليشيهات) مما يقلل من قيمة النص الأدبي.
كيف إذن تمكن المترجم من الارتقاء بكتابات نجيب محفوظ في نسخها الإنجليزية لتنافس مع الأدب العالمي في بيئة أدبية شديدة الصرامة. وكيف استطاع المترجم (تنظيف) كتابات نجيب محفوظ من (الكليشيهات) وتأهيله لنيل أرفع الجوائز العالمية؟
قبل الإجابة عن السؤال نحتاج إلى تعريف المترجم تعريفاً صحيحاً. تدرجت تعريفات المترجم ممن ينقل أو يستبدل النص المكتوب أو المسموع من لغة إلى أخرى، إلى من ينقل المعنى المكافئ للنصوص من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف، بحسب نظريات الأمريكي يوجين نايدا من واقع ممارسته العملية إلخ. إلى من نادى بضرورة اهتمام المترجم بالجانب الوظيفي للغة أو التركيز على الاستخدامات البراغماتية إلخ. غير أن الاستفادة من مفاهيم علم اللغة ومصطلحاتها سواء من علم الدلالة أو من التداولية ربما لا يكون كافياً، كما أن التركيز على الجوانب الجمالية والخطابية والدلالية والبليغة لكتابة اللغة الهدف بعيداً عن اللغة المصدر ربما لا تفي بالغرض المطلوب.
على المترجم بالإضافة إلى كل ما ذكر أعلاه أن يكون مدركاً لقواعد وشروط النص (Gere). إن أي نص أدبي ينطوي على عدة شروط معينة ليس أقلها، حتمية وجود الهدف والمناسبة الاجتماعية واللغة الخاصة بالمجموعة الثقافية، فضلاً عن المشاركين.
إن اختلاف القواعد والشروط ما بين نص وآخر هو ما يميز النوع الأدبي ويساعد النقاد على تصنيف وتقييم وقياس مدى استيفاء الكاتب للشروط والقواعد. عليه أن يكون ملماً بقواعد وشروط ووظائف الأنواع الكتابية المختلفة كالشعر والدراما والخيال والواقعية والنثر، والمسرحية والتمثيل والرواية والقصة القصيرة والكتابات الصحفية كالمقالات والافتتاحيات والمناظرات الأدبية والسياسية التي تعتمد على قوة الاقناع ناهيك عن الخلاصات البحثية والمقدمات والمراجعات إلخ.
باختصار ينبغي أن يكون المترجم خبيراً في النصوص الأدبية والصحفية والقانونية والدينية والرسمية إلخ التي بين أيديه. المترجم هو باختصار الكاتب الخبير والناقد الأدبي والمستشار الثقافي الذي يبصر ما وراء السطور والمعاني ويقدم الاستشارة المطلوبة.
وفضلاً عن تقييم النوع الأدبي (the genre)، يخضع تقييم النص الكتابي أو الخطابي في مسابقات عالمية كالجوائز الأدبية أو الصحف العالمية لعدة معايير أخرى كقياس قواعد الجدل (Argumentation) الصحيحة على سبيل المثال.
يحتاج الساسة والمحامون والباحثون، كما يحتاج الإعلاميون لتشكيل، وصياغة المفاهيم، والتصورات والإقناع، حيث يستخدم الساسة الجدل لإقناع الجمهور لانتخاب مرشحين معينين أو لإقناع أشخاص بتغيير سلوكياتهم. الافتتاحيات ومقالات الرأي هي مثال على الأدوات الجدلية التي يستخدمها الإعلام المطبوع للتأثير والإقناع وتغيير الآراء. تعد الإعلانات أيضاً أدوات إقناع إعلامية تطرح أسباباً ومبررات للمستهلكين لشراء منتجات معينة. يتغير الجمهور وكذلك متطلبات العصر لذا لا بد أن يتغير الأسلوب المستخدم في الإقناع وعلى المترجم أن يكون مواكباً.
إن إلمام المترجم بقواعد اللغة الجدلية يساعده في الترجمة الإعلامية. فالجدل والجدل المضاد يحتويان على بعض أدوات الجدل الخفية التي تستخدمها وسائل الإعلام لإقناع القراء والتي ربما تكون خافية على المترجم غير الخبير. وجد الباحثون أن كثيراً من المقالات والافتتاحيات وأعمدة الرأي المترجمة للعربية تفقد زخمها في الإقناع نتيجة عدم إلمام المترجم بأدوات الإقناع المخفية. يحتاج المعلقون والمحللون والكتاب والنقاد والناشرون العرب إلى الاستعانة بمترجمين مدركين لقواعد النوع الأدبي وقواعد الجدل حتى تصل رسائلهم إلى الجمهور المستهدف.
على المترجم أن يكون مدركاً لأسلوب الجدل الحواري الذي أرساه الفيلسوف أرسطو، وهو الأسلوب الشائع والمتبع في الافتتاحيات ومقالات الرأي في الصحف والمجلات الغربية وفي المناظرات الأدبية والسياسية والفرق بينه وبين (أسلوب الجدل السلطوي) الشائع في الكتابات الشرقية عموماً وبخاصة في الإعلام العربي، الذي يغلب عليه تأثير الأيديولوجية ومراكز القوى والنفوذ وجوانب الحياة الاجتماعية والسياسية.
إن الفلسفة والمنطق ركائز أساسية في الكتابة. وعلى الكاتب أو المتحدث أو المترجم تفادي الوقوع في فخ الأغلاط المنطقية (Logical Fallacies) والتي قد تشمل على سبيل المثال لا الحصر، التعميم والتبسيط، وركوب الموجة، ومحاولة مهاجمة الشخص بدلاً من أفكاره، والتعميم والركون المفرط إلى العاطفة الدينية أو الأسرية واستجداء المشاعر، وكثير من المغالطات التي لا يتوقع أن تفوت على القارئ الفطن. على المترجم أن يكون مدركاً لقواعد اللعبة الجدلية في النقاش والإستراتيجيات المختلفة التي يستخدمها الكتاب في محاولتهم للإقناع. ينبغي استخدام كل هذه الإستراتيجيات بدرجات متفاوتة ووفق مقادير وقوانين معينة لا تخل بالنص الجدلي. إن مساعدة المترجم للكاتب وتنبيهه هو ما يساعد على الارتقاء بالكتابة إذا كان الهدف هو النشر في المجلات والصحف العالمية.
عندما يطمس المترجم أفكار الكاتب نتيجة عدم إلمامه بأدوات الجدل الخفية ويحول الأصوات الكثيرة في النص إلى صوت واحد فقط مسموع يتحول النص إلى نص ممل خالياً من التشويق والإثارة وفاشلاً في أعين النقاد، إن الأفكار غير المدعومة بالحقائق والبراهين القوية المستندة على قواعد المنطق الفلسفية الصحيحة تعكس ضحالة في التفكير وضآلة في الفكر، كما أن طرح الحقائق والإحصائيات المجردة وحدها لا يكفي لشد انتباه القارئ وإقناعه.
لابد للكاتب والمترجم من انتهاج أسلوب الحوار المنطقي لمساعدة القراء على التوصل إلى استنتاجات والخروج بدلالات، كما لابد للكتاب والمترجمين العرب من اقتحام منابر الفكر الغربية والمجلات الأجنبية وعرض أفكارهم.
تكتب كثير من الصحف العالمية، كالفاينانشيال تايمز ونيويورك تايمز على سبيل المثال شروط النشر في طبعاتها. إنها تنصح بالابتعاد عن المصطلحات المعقدة (jargon) والاختصار والتركيز على نقاط أساسية وعدم الاسترسال في أوصاف مرسلة إلخ. وفي صحيفة نيويورك تايمز تجد مثلاً الفقرة التالية التي تحدد شروط النشر: (نحن نبحث عن حجج إعلامية واضحة وملاحظات بليغة وحكايات شخصية أو تاريخية مقنعة). المترجم الخبير يفهم ويراجع هذه الشروط قبل البدء في الترجمة لمساعدة الكاتب على الحصول على فرصة النشر في هذه المجلات العالمية. المترجم يفهم تماماً شروط الناشرين ويستطيع تحويل أصعب المقالات العلمية المليئة بالمصطلحات التقنية إلى لغة يستطيع القارئ العادي استيعابها.
والآن ورداً على السؤال في مستهل المقال عن كيفية ارتقاء المترجم بروايات نجيب محفوظ العربية؟ نجد أن الإجابة تكمن في التعريف الصحيح لدور المترجم، وإدراكه لقواعد النوع الأدبي وشروطه وكيفية قياسه. لقد تكمن مترجمو روايات نجيب محفوظ من تنظيفها من (الكليشيهات) التي تعتبر خصماً على أي رواية، وتمكنوا من إبراز قواعد النوع الأدبي الصحيحة، وفي هذه الحالة (الرواية) للنقاد، مما مكنهم من فهم الرسائل وقياس محتواها الفكري وهنا يبرز الدور الكبير للمترجم الذي لا يقل عن دور المؤلف، والذي وصل بالنص المترجم للعالمية، والذي لا يجد اسمه احتفاء منصفاً في الغالب.

ذو صلة