مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

عقود ترجمة أم عقود إخضاع؟

على خلاف ما تكهن به المتفائلون بمستقبل الذكاء الاصطناعي، لم يفرز تطور الترجمة الآلية والتحسن اللافت في آدائها عبر الزمن إلى القضاء على مهنة المترجم ولا إلى التقليص من سوق الترجمة العالمية المعتمدة أساساً على الكفاءة اللسانية البشرية. فالواقع الذي تشهد به الأرقام اليوم هو انفجار المحتوى المتعدد اللغات إنتاجاً وترجمة، وتضاعف عدد المترجمين المحترفين العاملين لحسابهم الخاص في إطار عقود حرة أو أولئك المنتمين رسمياً إلى مؤسسات مختصة.

على أن الوضوح القانوني النسبي المميز لمهنة المترجم في عدد من دول العالم، والاستقرار الملحوظ في المعايير الدولية المعتمدة في تحديد أتعاب الترجمة؛ إنما توازيه في البلدان العربية فوضى عارمة حقيقية، تجعل من الترجمة عملاً شبيها بالسخرة أحياناً، ما عدا في بعض المؤسسات المحترمة القليلة.
في العقود السرية
يعرف أهل الخبرة في مجال الترجمة أن دار النشر الواحدة لا تتعامل مع المترجمين بعقود موحدة، لا سيما فيما اتصل بالبنود المتعلقة باحتساب تكلفة الترجمة. فلاعتبارات مختلفة، ليست مؤهلات المترجم وكفاءته العلمية والتقنية على رأسها بالضرورة، إذ تتفاوت الحقوق المادية للمترجم حسب اسمه وشهرته ومقدار حضوره في المشهد الثقافي ومدى اتساع علاقاته الشخصية بالفاعلين في مجالي التأليف والنشر. وقد تؤخذ في الاعتبار أيضاً معطيات لا تخطر على بال، ولكن يعول عليها الحريف تعويلاً كبيراً للضغط على تكلفة الترجمة، مثل جنسية المترجم وسنه ومهنته وسعر صرف الدولار في بلده. وبناء على تلك المعطيات الضمنية التي لا تصرح بها بطبيعة الحال العقود الرسمية، تتجه اليوم دور نشر عربية كثيرة إلى مترجمين يتنمون جغرافياً إلى بلدان منكوبة اقتصادياً يجمعون إلى الكفاءة العلمية العالية تدني مقدار الأجر الأدنى، وذلك طمعاً في الإفادة مما يعرف في مجال الخدمات باليد العاملة الرخيصة.
وفي العموم، يخضع البند الخاص بالحقوق المادية إلى التفاوض بين دار النشر والمترجم، وغالباً ما يشفع التفاوض بتوصية بالكتمان، على أساس الحفاظ على سرية العقد، فيصدق المترجم الغر أنه تعاقد على شروط استثنائية، ويقتنع بأن الأجر المقترح عليه أرفع من المعمول به في سوق الترجمة.
منطق الهبة ومنطق سعر الجملة
تحتسب حقوق المترجم في العادة وفقاً لواحدة من طرق أربع:
(أ) الحساب بالصفحة للكتاب ذي المقاس المتوسط. وتستثنى من الحساب، أغلفة الكتاب، وصفحات المعلومات الأولية، وصفحات العناوين، والفهارس بأنواعها، وقائمة المصادر والمراجع، التي يلتزم المترجم بترجمتها بالمجان.
(ب) الحساب بعدد كلمات الكتاب، ويستثنى من الحساب أيضاً كل ما سبق مع الحواشي التي لا تحتوي على نصوص بما في ذلك الإحالات، ورؤوس الصفحات وذيولها والأرقام المستقلة مهما كان عددها، وعلامات الترقيم وما هو في حكمها.
(ج) الحصول على مبلغ مقطوع يبدأ من ألف دولار، أو أكثر أو أقل، (معطيات 2022) للكتاب الذي تزيد صفحاته عن مئة صفحة من القطع المتوسط، وذلك حسب كثافة النص المكتوب.
(د) عدم تسديد مبلغ مالي وتمكين المترجم من نسخ من الكتاب (بين 100-150)، وذلك مهما بلغ عدد النسخ المسحوبة، أو تمكينه من نسبة مئوية من قيمة مبيعات الكتاب (بين 15 % - 20 %)، لمرة واحدة ولطبعة واحدة مهما كان عدد الطبعات.
ويترتب على الاتفاق وفقاً لإحدى هذه الطرق أن يتنازل المترجم، تنازلاً نهائياً، عن جميع حقوق الترجمة، وما تعلق بها من إضافات في العمل، بحيث تكون جميع الحقوق المتعلقة بالترجمة جزءاً أو كلاً ملكاً حصرياً للناشر الذي ينفرد بحق التصرف المطلق من نشر، أو بيع، أو إهداء، أو إيداع، أو تبادل، أو أي نوع من أنواع الاستعمال.
المشترك بين هذه الطرق إجحافها بجهد المترجم واعتداؤها الرمزي على حقه المادي من خلال إجباره على أداء مهام ترجمة غير محسوبة الكلفة. فخلافاً لما قد يبدو لغير العارف، تعلمنا تجربة الترجمة أن ترجمة الفهارس والحواشي المعتبرة في عقود الترجمة من الزوائد قد تستغرق من المترجم ساعات طويلة من العمل والتركيز، وهي إلى ذلك جزء مكون من عمله على الكتاب بما يجعل استثناءها من احتساب مكافأة الترجمة أمراً يفتقر إلى المنطق إلا ما كان شبيهاً بمنطق المغازات الكبرى في مواسم التخفيضات!
ينضاف إلى ما سبق ذكره أن المبدأ في احتساب كلفة الترجمة قائم على تناسب عكسي بين عدد صفحات النص المطلوب ترجمته والمكافأة المرصودة للصفحة أو الكلمة. فكلما زادت صفحات الكتاب قام الناشر بتخفيض الكلفة بمنطقٍ عجيب شبيه بمنطق التعامل في أسواق البيع بالجملة. وليس يهم إن كان المترجم سيقضي، كلما زادت صفحات الكتاب، وقتاً أطول وينفق جهداً أكبر ويعاني تعطيلاً لسائر مشاريع الكتابة الأخرى، فالأهم أن يدفع الناشر أقل بصرف النظر عن التناسب من عدمه بين الوقت المبذول والأجر المرصود.
آجال تعجيزية وشروط مجحفة
لا تسدد غالب دور النشر حقوق المترجم دفعة واحدة، بل تقسطها على دفعتين. الدفعة الأولى، بعد استلام العمل النهائي، وتحكيمه، وإجراء التعديلات المطلوبة عليه، والدفعة الثانية بعد إتمام مراجعة المترجم النص على إثر إخراجه التقني، وإقرار صيغته النهائية وإجازة طباعته. غير أن هذا المسار الطويل في تحصيل الأتعاب محفوف بالمزالق المؤدية في معظم الأحيان إلى الالتفاف على حقوق المترجم من خلال فرض جملة من الآجال الصارمة التي لا تأخذ بعين الاعتبار المرونة المطلوبة في المعاملات ذات الطابع الفكري. فمن الشروط العامة التي تتعامل بها بعض دور النشر مع المترجمين هذا النموذج الحقيقي لدار نشر عربية تصرح بأن علاقتها بالمترجمين علاقة تعاونية قوامها التقدير وتثمين الجهد، وإيفاء الحقوق ولكنها تعرض على المترجمين للمصادقة ما يلي:
إذا تجاوز المترجم الأجل المحدد لإنهاء ترجمة العمل فيحسم من حقوقه نسبة مئوية تعادل نسبة مدة تأخير العمل إلى المدة الكلية المحددة. على سبيل المثال، لو كانت مدة تنفيذ العمل مئة وعشرين يوماً، وتأخر المترجم ثلاثين يوماً، أي ربع المدة، فيحسم منه الربع (25 %) من حقوقه المادية.
إذا تجاوز المترجم الأجل المحدد في العقد بنسبة تزيد عن 25 % من المدة الكلية، فيسحب العمل منه تلقائياً، ويسقط حقه في المطالبة بأي حقوق.
يمنح المترجم، بعد تحكيم العمل وإعادته إليه، مدة خمسة عشر يوماً لإنهاء التعديلات والتصويبات، فإذا تأخر عن إعادة العمل إلى الدار بعد هذه المدة، فيحسم من الدفعة الأولى (1 %) عن كل يوم تأخير، ويسحب منه العمل بعد أربعة عشر يوماً، ويحال على مترجم آخر، وتحسم التكلفة من المتبقي من تلك الدفعة.
يمنح المترجم، بعد إخراج العمل وإعادته إليه لفحصه نهائياً وإجازة طباعته، مدة سبعة أيام، فإذا تأخر عن إعادة العمل إلى الدار بعد هذه المدة، فيحسم من الدفعة الثانية (2 %) عن كل يوم تأخير، ويسحب منه العمل بعد أربعة عشر يوماً، ويحال على مترجم آخر، وتحسم التكلفة من المتبقي من تلك الدفعة.
تنكر هذه الشروط على المترجم حقه في أن يكون بشراً يصيبه المرض وتعرض له العوارض بما يجعل العلاقة التعاقدية بين الطرفين أشبه بعلاقة الإخضاع منها إلى شيء آخر، فضلاً عما ينجر عن هذا المنطق في التعامل من إقصاء المترجمين من ذوي الكفاءة والاختصاص وفتح الباب للدخلاء ممن لا يجدون حرجاً في قبول أمثال هذه العقود المهينة.
وفي الجملة، إذا استثنينا بعض التجارب الناجحة مع هيئات بحث ونشر محترمة تُحسن تثمين عمل المترجم وترعى حقوقه الأدبية والمادية؛ ما يزال حقل الترجمة في البلاد العربية مسرحاً لانتهاكات شتى لا ترتكب ضد النصوص الأصلية فحسب، بل ترتكب أيضاً في حق بعضٍ ممن تصدق عليهم حقاً صفة المترجم، وليسوا، لحسن الحظ، قلة.

ذو صلة