أجرت الأستاذة سوسن الأبطح تحقيقاً في صحيفة الشرق الأوسط (العدد 15910، الاثنين 20 يونيو 2022) حول مكانة الكتب المترجمة في العالم العربي، ونصيبها من إقبال القراء العرب، وآراء الناشرين العرب في هذا الموضوع. يوضح التحقيق قلق الناشرين إزاء التفاوت الهائل بين ما يُصدِرونه من كتب عربية ومن كتب مترجمة إلى العربية. وقد أثارت تصريحات الأستاذ الكبير والناشر المخضرم حسن ياغي، مؤسس دار التنوير ببيروت؛ أثارت استغراباً كبيراً وجدلاً واسعاً، إذ قارن بين الناتج الأدبي العربي والناتج الأجنبي المُترجَم إلى العربية، مشيراً إلى ما يمكن تسميته بالفرق الحضاري المريع. ويكشف التحقيق عن تفاصيل أخرى مهمة للغاية، لا مجال للتوقف عندها في هذا المقال، تخص تحديات دور النشر وعذابات الناشرين وإدبار العرب عن القراءة في ظل ما توفره التكنولوجيا والعولمة من (تسالي) وبدائل تواصلية.. إلخ.
ولكن، كالعادة، هنالك أمر في منتهى الأهمية غفل عنه المجادلون، الذين لاموا ياغي على انعدام ثقته بالكُتَّاب العرب، وحمَّلوه المسؤولية في عدم ترويج روايات العرب كما ينبغي، واتهموه بصفته ناشراً لا يهتم إلا بالمرابح المادية. أما الأمر الذي يعنينا فهو بمثابة إشكالية في حد ذاتها، يتكرر الحديث فيها وعنها باستمرار، من دون الوصول إلى يقين دامغ يثلج الصدور.
إذا كان لنا الحق في استقراء تصريحات هؤلاء الناشرين الذين استجوبهم التحقيق، واعتبارها عينة جزئية تعبر عن الكل بشكل أو بآخر، فلنا إذاً أن نسأل عن منزلة المترجم في هذا الوسط الثقافي العربي. ما أبعاد هذه المنزلة؟ ما ميزاتها؟ ما آفاقها؟ وإذا كان التحقيق يذكر أن نسبة الكتب المترجمة في إحدى الدور تصل إلى 70 بالمئة من مجمل نتاجاتها السنوية، فلماذا يعاني المترجمون العرب مادياً في الوقت الذي يعترف فيه الناشرون باعتمادهم الساحق على المنتوج الأدبي المترجم؟ لماذا لا توجد قواعد ثابتة وواضحة تضبط التعامل مع المترجمين المحترفين؟ كيف نضمن حقوق المترجم، إذا افترضنا أن له حقوقاً في الأصل؟ وكيف نقنع الناشر، الذي يقر باعتماده على جهود المترجم، برفع أجور المترجمين المجتهدين؟ أسئلة وتساؤلات كثيرة تتوالد من هذه الإشكالية، وسنحاول هنا أن نخوض في بعضها قدر المستطاع لتبيين السبل المطروحة لإنصاف المترجمين في العالم العربي.
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أن كثيراً من الناشرين، في مناسبات مختلفة، تناولوا هذه التساؤلات برحابة صدر، وردوا عليها من وجهة نظرهم، وهي وجهة نظر منطقية، يقول أحدهم: ليس كل المترجمين بارعين، وأنه يحتاج إلى مراجعة الترجمات التي تصل إليه وتدقيقها وتحريرها أيضاً. وهنا قد يكون رد المترجمين ما يلي: أولاً، من الطبيعي جداً أن تكون في كل دار هيئةٌ تشرف على جودة منتجاتها، والمترجمون بشر يخطئون ويغفلون ويسهون، فمن مصلحة الجميع إذاً أن يكون هناك من يراجع ويدقق ويحرر. ثانياً، يجاهر أصحاب هذا الصوت من المترجمين بالقول: ليس كل المترجمين بارعين، لكننا نتحدث عن أوضاع المترجمين البارعين حصراً، أو المترجمين المحترفين. فهؤلاء، بعد طول تجربة واختبار، تبدو ترجماتهم أقل كلفة من حيث المراجعة التحليلية والتدقيق المفصل والتحرير الشامل. ولكن، من هو المترجم المحترف؟ إن التوصل إلى تعريف نهائي أمر ليس بالبسيط إطلاقاً. من جهة أخرى، بإمكاننا اعتبار من ترجم أكثر من خمسة عشر كتاباً على الأقل بالمترجم المحترف. لماذا؟ لأن هذا العدد من الكتب يوحي بأن المترجم متفرغ كلياً للترجمة، لا يترجم لتزجية الوقت أو للتمرن على لغة أجنبية، كما يوحي بأنه اكتسب ثقة الناشر (أو الناشرين) الذي طلب منه ترجمة تلو أخرى، وما كانت لهذه الثقة أن تُبنى لولا ثقة القراء. نتحدث بمنطق مادي بالمطلق، مع الأسف، لكن الموضوع يفرض نفسه، فإذا أردنا التحدث عن الجانب المعنوي، فينبغي للمترجم المحترف أن يكون قد درس اللغة وآدابها في جامعة محترمة ومرموقة، وحبذا لو أقدم على الدراسات العليا في واحد من حقول الترجمة. هذه معايير بديهية لتعريف المترجم المحترف، وقد تتفاوت من حالة إلى أخرى، فكثير من المترجمين في العالم العربي لم يتخصصوا بأدب اللغة الأجنبية ولسانياتها، لكنهم قدموا نتاجاً مرضياً في اختصاصاتهم. وهكذا فإن المسألة على تعقيداتها ليست بالمستحيلة إذا توافرت النية لإيجاد حل.
هنالك أصوات تنادي باستمرار إلى ضرورة إنشاء اتحاد عام للمترجمين، على غرار اتحاد الناشرين، من بينهم رأي المترجم الكبير ثائر ديب، في رده على أسئلة الأستاذ حسن عبدالموجود (صحيفة عمان، بتاريخ 07 يونيو 2022)، بوجوب تضامن المترجمين (وصولاً إلى تشكيلهم اتحادات ونقابات تدافع عنهم وتفرض شروطهم، فضلاً عن رسمها ملامح التقويم السليم لعملهم ونوعيته). ولعلي أضيف إن إنشاء اتحاد كهذا قد يصب في مصلحة الناشر أيضاً، في حال أخلّ المترجم بأحد بنود العقد، وعرّض الناشر -لا قدر الله- إلى خسارات فادحة غير متوقعة. وإن اتحاداً من هذا النوع قد يسعه تنظيم عمليات الترجمة وتوسيعها، وذلك بالحد من الفوضى الراهنة في ترجمة ما تُرجِمَ مراراً، بغية الانتقال إلى ترشيحات كتب جديدة تثري المكتبة العربية بكل تأكيد، وعدم الانصياع إلى رغبة بعض الناشرين في الحصول على نسخ تخص دورهم من الأعمال الكلاسيكية. هذا وغيره بإمكان اتحاد المترجمين فعله، لاسيما أن الكتب الكلاسيكية التي توفي كُتَّابها منذ أكثر من سبعين عاماً باتت في الحق العام، يستطيع أي ناشر إصدارها، دون أعباء تكاليف حقوق الناشر الأجنبي، فبالتالي لا بد أن تكون الترجمة العربية ملكاً للمترجم العربي، إلا في حال تنازله عن حقه هذا للناشر مقابل مبلغ معيَّن يضاف إلى أجور الترجمة.
يمكننا الاستفاضة إلى ما لا نهاية في تقديم الحلول، التي قد تبدو وردية أحياناً، خصوصاً أن حقوق المواطنين الأساسية ضائعة في أغلب دول العالم العربي، فما بالك بحقوق المترجمين. لكننا لن ننتظر أن تُحل كل مشكلات الخلق ريثما يأتي دور مشكلاتنا، كما أن الأيام كفيلة بإنجاب من يمتلك زمام المبادرة لاقتراح حل معقول يرضي جميع الأطراف ويلزِمها. لا ريب في هذا.