| المترجمون خيول بريد التنوير |
بوشكين
مما يبعث على الاستغراب في الخطاب الفكري والأدبي والأكاديمي والاجتماعي العام السائد حول الترجمة، قيامه على تناقض بيّن، مصدرُه التأرجح بين موقفين متقابلين: فمن جهة نجد مديحاً للترجمة لا حدّ لمداه يثني على أدوارها العلمية والحضارية ويؤكد أهميتها ويدعو إلى اعتناء الدول بها ودعمها، ومن جهة أخرى يعمّ هذا الخطابَ صمتٌ رهيبٌ عن المترجِم ودوره وأهميّته المحورية في قيام الفعل الترجميّ. فالمتأمّل في الدراسات التي تناولت الترجمة تنظيراً لمفاهيمها وأسسها وآليّاتها، أو تحليلاً لأبعادها المختلفة، أو تقييماً لإنجازاتها الأدبية والعلميّة والحضاريّة، يفاجأ بغياب المترجم غياباً تاماً عن أيّ تفكير أو نظر أو تحليل. فلكأنّ الترجمة تنشأ وتتم تلقائياً دون فاعل، دون ذات تترجم وتكتب وتحرّر، دون مؤلّف ترجمة. دون مترجم، ولكأنّ الترجمة فعل يمكن أن يتم دائماً مهما كان المترجم، ومهما كانت ظروف المترجم، وتكوينه، وباعه من الترجمة والمجال الذي يترجم فيه. وما أكثر ما وصلتنا روايات مترجمة لا تحمل أسماء مترجميها، وما أكثر ما بثّت على الشاشات أشرطة سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية تصاحبها ترجمة لا يذكر اسم صاحبها.
هذا الغياب، وذاك التغييب هما أقسى غبن يواجهه المترجم.
لقد اعتاد الناس على حصر الحديث عن حقوق المترجم في بعدها المادي فحسب، وجعلوا أكبر مطمح للدفاع عن المترجم وإنصاف عمله هو ضمان حصوله على أجر مجز يعادل العمل الشاق الذي يقوم به، ولكنّ الحقوقَ المادية ليست في الحقيقة إلا الجانب البسيط من حقوق المترجم، والحصول عليها أمر يسير، أو لنقل إنه صار يسيراً، ويمكن إصلاح ما يعتوره من عيوب ونقصان وتحايل. أما الحقوق المعنوية والأدبية، وأما الاعتراف بأنّ للترجمة فاعلاً ومؤلفاً هو المترجم، وأما الإقرار في الوعي واللاوعي بأنّ للمترجم كياناً وذاتية وفردانية ومجالاً للإبداع، وأما الانتباه إلى أن الترجمة ليست عملاً آلياً تقنياً يمكن أن ينجزه أيٌّ كان، فذلكم كله هو الذي ما يزال يمثّل خللاً في منظومة حقوق المترجم، وما يزال يقصر بها عن أن تصل إلى مرحلة التحقق والاكتمال. وفي ذلك يستوي مترجمو الشرق ومترجمو الغرب، ولا أفضلية تقريباً لسوق الترجمة في الغرب على نظيرتها عندنا.
لا نرمي من هذا الكلام طبعاً، إلى استنقاص ما للحقوق المادية من قيمة في حياة المترجم وعمله، ولاسيما المترجم المتفرغ لفعل الترجمة الذي لا يملك مصدر رزق غيرها، ولا نرمي من ذلك أيضاً إلى إضفاء صورة مشرقة على نصيب المترجمين اليوم من نيل حقوقهم المادية، فننشر الوهم بأنّ المترجمين في العالم العربي خصوصاً، صاروا ينعمون بكامل حقوقهم ويحصلون على أجورهم دون جري ولهاث. ولكن واجب الإنصاف والخبرة بهذا المجال ومعاشرة أجيال مختلفة من المترجمين، تفرض علينا الإقرار بأن وضع حقوق المترجم المادية وظروف حصوله على مستحقاته قد تحسنت كثيراً في العقود الثلاثة الأخيرة، فقد صارت لدينا في العالم العربي مؤسسات حكومية مختصة في الترجمة تطبق المعايير الدولية المنصوص عليها في تشريعات الأمم المتحدة لحقوق الملكية الفكرية (إبرام عقد ترجمة، تحديد سعر الترجمة مسبقاً حسب عدد الصفحات أو عدد الكلمات، ضبط تواريخ معلومة مسبقاً لدفع أقساط تكاليف الترجمة). وإنني لأتذكر الآن، بكل حزن وألم، ما عاناه أساتذة لي قبل أربعين سنة، من ظلم ماديّ وجحود معنويّ. كانوا مترجمين أفذاذاً، لكنّ أغلبهم ترجم لجهة ما دون أن يبرم معها عقداً، وأغلبهم لم ينالوا ملّيماً واحداً عن ترجماتهم، وبعضهم وُعد بالمال ولم ينله، وبعضهم ترجم وكابد وسفح وقتاً غزيراً ثم دفع المال لينشر ما ترجمه. ولا شك في أن المترجمين اليوم ما زالوا يتطلعون إلى تحقيق المزيد من الحقوق المادية، فلئن كان مبدأ إبرام العقد مع المترجم والإقرار بحقوقه المادية صار مطبقاً ولاسيما مع المؤسسات الحكومية، فإن التقدير المادي لتكاليف الترجمة متفاوت بين هذه المؤسسات وأغلبها تدفع مبالغ زهيدة بعيدة عما هو معمول به في الغرب. كما أن كثيراً من دور النشر تبرم عقداً مع المترجم ثم تتنصل من التزامها ولا تدفع مستحقات المترجم، فلا يجد المسكين أي سبيل لتحصيل حقه.
بيد أن هذه النقائص التي تشوب وضع حقوق المترجم المادية في العالم العربي والتي قد تصل إلى حد التعدي والحيف على حقوقه، يمكن كما أسلفنا تجاوزها وإصلاحها وتطويرها، وتوجد من أجل ذلك ترسانة من الضوابط الإدارية والقانونية. ومثلما أنّ جيلي كان أحسن حالاً من ناحية تحصيل الحقوق المادية من الأجيال السابقة بفضل تنامي الوعي بقيمة الترجمة، فمن المؤكد أن الأجيال القادمة ستكون أحسن حالاً منّا ما دام ذلك الوعي في تنام. أما تعزيز حقوق المترجم المعنوية ونشر الوعي بها وضمان تحقيقها، فهذه هي المهمة الأعسر والألح. وما يؤكد خطورة هذه المهمة والصعوبات الحافة بها، أن المترجم الغربي الذي مشى شوطاً كبيراً جداً في افتكاك حقوقه المادية ما زال إلى اليوم يشكو التغييب، والتهميش، وإنكار أي وجود أدبي له في استقلال عن مؤلّف النص الأصلي وناشر الترجمة.
أولى صور هذا التهميش تواصلُ إلصاق تهمة الخيانة بالمترجم، ترديداً للمثل الإيطالي الشهير، وتعبيراً عن استحالة الوفاء التام للنص الأصلي عند نقله إلى النص الهدف. ولا شك في أنّ استعادة هذا المثل وتقديمه على أنه بديهة وحتميّة لا مهرب منها، تجنٍّ كبير على المترجم وعمله. فهذا الوصم يتجاهل السياقين التاريخي والسياسي اللذين ارتبط بهما هذا المثل، وميسمهما الخوف من خداع الترجمان أثناء توسطّهم بين الدولة وأعدائها. ثم إنّ هذا الوصم يقيم السجلّ الأخلاقي حجّةً على السجل اللغوي الأدبي، فينتقل بسهولة وسذاجة من هذا إلى ذاك، والحال أن لا مجال البتة لقيس الفعل الترجمي بالخيانة أو الوفاء في معناهما الأخلاقي، إذ إن الوفاء التام المطلق لا يتحقّق إلا إذا لم تقع الترجمة وظلّت اللغات مغلقاً بعضها دون بعض، أما إن سمحنا بالترجمة فكل ترجمة هي نقل وتحويل وإكساب النص الأصل وجوداً له جديداً، وعلى هذا النحو فلا بد من أن تتغير صورة النص الأصلي، وحينها لا بد من أن نحمل تصوراً لمعيار الوفاء غير معنى المطابقة التامة للنص الأصلي.
الصورة الثانية لتهميش المترجم على صلة وثيقة بالفهم السائد لمبدأ الوفاء. فبناءً على هذا الفهم، نُظر إلى ظاهرة الترجمة الإبداعيّة، ولاسيما في ما يتعلق بترجمة الشعر، نظرةً شزراء، واعتبر كل نزوع يبديه المترجم إلى الإبداع مظهراً من مظاهر الخيانة والتدخل في النص الأصلي، وقد يسبّب ذلك تذمّر مؤلف النص الأصلي. بل والأدهى والأمرّ أنّ كثيراً من الباحثين والدارسين المهتمّين بالترجمة يعدّون الترجمة الإبداعية دليلَ عجز وفشل في ترجمة النص الأصليّ، فيعوّض المترجم نقائص الترجمة اعتناءً بأسلوب الترجمة، ويرى فريق آخر منهم أنّ كل إبداع هو إقرار بأنّ المترجم مبدع فاشل فاته قطار الإبداع فانتقم لنفسه في ما يضعه من ترجمات. وفي كل الحالات تقف خلف إنكار السمة الإبداعيّة على المترجم نظرةٌ دونيّةٌ له، تعتبره أقلّ منزلة من الكاتب، وتحصر دوره في الفعل الترجمي بوصفه نقلاً أميناً محايداً صامتاً للنص.
من هنا تنشأ الصورة الثالثة لتهميش المترجم وهي أوضح هذه الصور وأخطرها وأكثرها انتشاراً في الشرق والغرب. فبناءً على مبدأ الأمانة، صار من المسلّم به أنّ المترجم الجيّد هو المترجم الأكثر أمانة والأقل تصرّفاً في النص الأصليّ، والأزهدُ في الكشف عن ذاته في نص الترجمة. هكذا اقترنت صورة المترجم بالغياب، والامّحاء، وإقصاء الذات. وعلى قدر خلوّ الترجمة من آثار فردانيّة المترجم، تُمتدح الترجمة وتُعد مستوفية لمعايير الترجمة الجيّدة. وبذلك رسخ في الأذهان أنّ المترجم كيان مجرد محايد يؤكّد عملُه الغيابَ أكثر مما يشير إلى الحضور. إنه يستمدّ علّة وجوده من وجود مؤلف النص الأصليّ، ولا حاجة إليه إلا لتلبية رغبة من كلّفه بترجمة النص. إنه ظلّ المؤلف يسير خلف خطواته، ومتى توقفت خطوات المؤلف، متى انتهت سطور النص المطلوب ترجمته، انتهى الداعي إلى وجود المترجم، فيغيب في العدم، ولا يصير له ذكر عند من يقرؤون الترجمة، وقد يستشهد الباحثون والطلبة بمؤلف النص الأصلي مستندين إلى نص الترجمة ولكن دون أن يعنوا أنفسهم بذكر صاحب الترجمة، وكأن النص ترجم من تلقاء نفسه.
وفي كثير من الأحيان يُسمح لمؤلف النص الأصليّ أن يراقب الترجمة ويقيّمها قبل صدورها، إمّا بنفسه إذا كان يتقن اللغة المترجم إليها أو بالاستعانة بأحد الخبراء، فيكون ذلك باباً يدخل منه ليمارس دوراً أبويّاً تسلطيّاً، يزيد من تهميش المترجم ويجعله في مرتبة الطفل المتعلم.
هذه الأشكال من التهميش تأخذ صورةً ماديّةً لها في طبيعة حضور اسم المترجم في الكتاب المترجم. ففي أحسن الحالات يكون تحت اسم المؤلف الأصلي وبخط أصغر وأرفع حتى لا يكاد يرى، وفي بعض الترجمات يوضع اسم المترجم في الصفحة الموالية لصفحة الغلاف، وقد يعمد بعض الناشرين إلى عدم إثبات اسم المترجم أصلاً. ويزهد كثير من الناشرين في وضع نبذة تعريفية للمترجم، تتضمن قائمة ترجماته ومؤلفاته، كما يجري الأمر مع المؤلف عادة.
ونلمس صدى لهذا التهميش كذلك في طبيعة العقود التي تبرم مع المترجم. ففي أغلب الأحيان تضم قائمة من الواجبات والإلزامات على المترجم، أكثر ممّا تسند إليه من حقوق، وبينما ترد الحقوق مجملة مختصرة تكاد لا تتجاوز التقدير المالي لتكاليف الترجمة وطرق سداد المكافأة، يسهر محرر العقد على تفصيل الواجبات والإلزامات تفصيلاً دقيقاً لا يترك ثغرة إلا وينتبه إليها، مع التركيز خاصة على وجوب التزام المترجم بنقل النص بأمانة وعدم التصرف فيه. ويتبيّن بوضوح أنّ عقود الترجمة، سواء في ذلك الشرق أو الغرب، تقوم أساساً على ضمان حقوق المترجم الفكريّة، دون الاعتراف له بحقوق التأليف. فتكاد علاقته بنص الترجمة تنتهي بعد تسليمه إياه إلى الناشر وحصوله على مكافأته. فلا يشرَّك أو يستشار في تسيير أيّ مرحلة موالية من مراحل نشر الكتاب وتوزيعه. ولا شك في أنّ تفسير ذلك يعود إلى عدم اعتبار المترجم مؤلفاً قائم الذات يساهم مساهمة فعّالة في بثّ حياة جديدة في النص الأصلي، ومنحه فرصة ليكون له وجود جديد في لغة وثقافة غريبتين عنه.
هذا التفسير نفسه يصدق على كل ما رأينا من مظاهر تهميش للمترجم. فعلّة العلل في رأينا هي النظرُ إلى المترجم على أنه مجرد منفّذ تقنيّ لفعل الترجمة، واعتبار الترجمة نفسها نقلاً لغويّاً بحتاً لنص من لغة إلى أخرى. وما يلاحظ اليوم وللأسف أن هذه النظرة الآليّة للمترجم تزداد رسوخاً في أعماق من يتعاملون مع المترجمين. وزاد في استفحالها تطور البرامج الترجميّة في الحواسيب ومواقع النت، فصار ثمة اعتقاد ضمنيّ أنّ كل من أتقن اللغة المنطلق وملك معجماً إلكترونياً مزدوجاً قادرٌ على إنجاز ترجمة جيّدة. وهذا ما نلمسه بوضوح في عروض الترجمة، إذ تركّز على طبيعة الخدمة الترجميّة المطلوبة أكثر من تركيزها على هويّة المترجم المطلوب، وطبيعة تكوينه، وخبرته، وحظّه من البراعة.
وما من شكّ في أنّ هذا التهميش الذي يعانيه المترجم، يجعل منزلته الرمزيّة والأدبيّة لا تتناسب بالمرّة مع الأدوار الثقافيّة والحضاريّة التي اضطلع بها طيلة التاريخ الإنساني. ففي كل المنعطفات التاريخية الكبرى كان المترجم هو قائد الحوار الحضاريّ، والتحوّل من عصر إلى عصر، وسفير الإنسان إلى أخيه الإنسان.