مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

إشكالية المترجم الأكاديمي

بدون شك، فإن تناول موضوع الترجمة يفترض استحضار أهم أركانها، المتمثلة أساساً في اللغة المترجم منها واللغة المترجم إليها، وبصرف النظر، عن مكون اللغتين، أو اللغات المعنية فإن أبرز ركن الذي يشكل قطب الرحى في عملية الترجمة، هو المترجم (الكاتب) المستتر، أو الذي يريد أن يكون كذلك، مضمراً أو ظلاً، أو وكيلاً تنتهي (صلاحيته) بمجرد النهوض بهذه المهمة، مع إنه لا يمكن للترجمة أن يكون لها موطئ قدم في الثقافة الإنسانية والمعرفة بمختلف تجلياتها وصنوفها، بدون وجود مترجم مفترض، حتى في خضم ازدهار آليات ووسائل الترجمة الحديثة خصوصاً الحاسوبية، إذ لا يمكن أن تمثل بديلاً عن المترجم (الحقيقي) و(الواقعي) وليس الافتراضي.

إذن، لم يكن المترجم تاريخاً وراهناً (رقماً) عابراً، أو بمعنى آخر فإن الخدمات الجليلة التي قدمها المترجم للعلم والمعرفة والثقافة، لا تحصى ولا تعد، وبعيداً عن المترجم (التقنوي) المتخصص بالوثائق الإدارية، منها: الزواج، والطلاق والديبلومات، وشهادة الازدياد وغير ذلك، فإن ما يهمنا هو المترجم الذي يبحر في المجالات العلمية الأدبية والثقافية، السوسيولوجية والأنثروبولوجية، وما يطلق عليها بالعلوم (المحضة).
وبعيداً، أيضاً، عما ينهض به المترجم من مهام ووظائف، كانت موفقة أو (جيدة) أو (رديئة)، ينبغي أن نتساءل عن موقعه؟ وأيضاً عن تموقعه؟ كان اجتماعياً أو اقتصادياً، وحتى (أخلاقياً) من حيث الاعتبار الذي يحوزه، ودرجته.
هناك الموقع الثقافي، وهناك الموقع المادي والترقي الاجتماعي الذي يظل محط تساؤل و(غبن) و(نسيان)، حتى أن عدداً من المترجمين في الثقافة العالمية، ومن العالم العربي قديماً وحديثاً، خاضوا في مجال الترجمة النظرية والتطبيقية ولم يكن دافعهم مادياً طبعاً، وإنما كان يندرج ضمن انشغالاتهم الثقافية والمعرفية والعلمية. لا نريد أن نقف عند أهم المترجمين وتاريخ الترجمة العربية ونظرياتها، فهم لم ينالوا في أغلبهم -حظوة مادية أو اجتماعية تليق بمقامهم- مع أن ما قدموه وأنجزوه علمياً لا يقدر بثمن.
يكفي أن نشير إلى نماذج من الثقافة المغربية والذين سعوا إلى تبني الترجمة علماً ومشروعاً أكاديمياً في مختلف تخصصاتهم، إلى جانب انشغالاتهم الأخرى، في الأدب واللسانيات والفلسفة والسيميائيات والأنثروبولوجيا والتاريخ والسوسيولوجيا من أجيال مختلفة في الفكر المغربي المعاصر، أمثال محمد سبيلا، ومحمد برادة، ومحمد البكري، ومحمد بنيس، وإبراهيم الخطيب، وعبدالمجيد نوسي... إلخ، حيث أسدت خدمات جليلة على صعيد الثقافة العربية، وليس فقط في حدود الأثر الثقافي المغربي، هنا يمكن أن نستحضر الفضل البارز لإبراهيم الطيب على مستوى ترجمة أعمال الشكلانيين الروس، إلى اللسان العربي، أو ما ترجمه محمد برادة من أعمال رولان بارت، خصوصاً، الدرجة الصفر في الكتابة، لرولان بارت، وما قام به محمد البكري حيث ترجم (S/Z) لرولان بارت، أو ما ترجمه محمد بنيس لكتاب (الاسم العربي الجريح) لعبدالكبير الخطيبي، وعبدالمجيد نوسي الذي ترجم أعمالاً في السيميائيات لغريماس، وغيره كثير.
الدافع الرئيس والعامل الأساسي لهذه الترجمات أنها لم يكن حافزها مالياً، أي إنها اندغمت في إطار المشاريع والأفكار العلمية لهؤلاء المترجمين بعيداً عن المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية، أوَ من منفعة (ميكانيكية) في ذلك؟!
لم يحظوا لا برعاية رسمية أو غير رسمية، فقط نالوا حظوة علمية وأكاديمية مازالت مستمرة، غير ذلك.. شيء آخر، وموضوع خارج الموضوع، يتطلب إرساء مبادئ التفكير فيه بدءاً من السريانيين إلى الجاحظ الذي كان منظراً للترجمة، والفلاسفة في الشرق والغرب الإسلامي، إلى رجال الدين في الغرب، مثل مارتن لوثر الألماني المترجم للكتاب المقدس، ويوجين نيدا الأمريكي الذي تحدث عن علم الترجمة في الستينات من القرن السابق، مستنداً إلى النظرية اللسانية المعاصرة والحديثة مع تشومسكي.
في هذا الإطار، تطرح إشكالية المترجم ودوره المبين ووظيفته الراهنية والمستقبلية، وما الذي نبتغيه منه أو يبتغيه منا، أو بالأحرى نبتغيه له، طالما أنه يؤلف خارج التأليف، ومع ذلك قد يتعرض لكل أشكال الإقصاء واللامبالاة.
كيف نفكر في المترجم؟ هل تفكر فيه؟ وإذا فكرنا فيه بأي منظور؟ هل يمكن أن نستجيب لمتطلباته الموضوعة على الرف، ثم ما رأي المترجمين فيما نتداوله على الأقل، الذين راكموا مكاناً مرموقاً في مجال الترجمة.
ليس المترجم الأكاديمي منظمة سياسية أو نقابية أو مدنية أو اجتماعية، سيبحث ويضع خططاً للدفاع عن مصالحه المشروعة، أو احتياجاته، وهذه إشكاليته أن يكون صوتاً للمعرفة واللغة المترجم منها، واللغة المترجم إليها، دون أن يكون صوتاً لنفسه، هذا ما يضعه في (الريادة) والهامش في نفس الوقت، أن يكون ذا أهمية، دون استفادة أو تحفيز، أو تدعيم.
وهذا ما يطرح إشكالية المؤسسات، أي بمعنى لا يمكن فهم إشكالية المترجم خارج إطار سياقه، ليس المعرفي، وإنما الاقتصادي والاجتماعي والمؤسسي.
أكيد أن الحوافز تشكل دعامة لعدد معين من المترجمين حتى إن بعضهم اتخذ منها حرفة أو مهنة أو اختياراً، بيد أنه ينبغي التفكير ووضع مراسيم ثقافية قمينة بحل الإشكال المادي والاجتماعي وكذا ما يتعلق بالمستوى الأكاديمي المتعلق بالترجمة وآلياتها وأهدافها وسموها، أي إنجاز وتقديم ترجمات جيدة بتعبير القدامى، عوض السقوط في الخطرفات بمفهوم الجاحظ.
ولا يمكن أن يكون ذلك، إلا من خلال تشخيص اقتصادي واجتماعي وأكاديمي، وموضوعي للموضوع، وعقد منتديات علمية يشارك فيها المترجمون والمنظرون لها والمتابعون لها (أي الممارسون والمهتمون بها نظرياً).
من أجل أن يغدو، أيضاً، شأن الترجمة، شأناً مؤسسياً على مستوى الرعاية وضمان وحماية الحقوق الاجتماعية، وإضفاء الطابع القانوني، الذي يرفع من جدواها ويعمل على احتضان شرايينها وروحها الضامنة لاستمرارها بشكل نسقي ومنتظم ووظيفي.

ذو صلة