مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

فاعلية العين في إنشاء النص الشعري

على الرغم مما استقر قناعةً تجعل من الرؤية البصرية بالعين لمكونات مرئية أساسَ العلاقة الكامنة بين الرسم والشعر، وأصلها، ومنطلقَ كل من الشاعر والرسام في إنشاء خطابه، وقاعدةً تُرسى عليها دعائم التعايش وتبادل المصالح بين توأمين عاشا في رحم الرؤية البصرية وخرجا منها إلى الحياة بكيانين يُفترض فيهما استثمار قوى الرؤية المشتركة الأولى التي انطلقا منها بما يُديم قرابتهما، ويُؤمّن لكل منهما كفاءة لا غنى عنها يُغذيها، عادةً، المرئي الأصل؛ على الرغم من هذا كله، إلا أننا لا نجد، إلا نادراً فيما نقرأ، فاعلية العين في المشاركة في إنشاء النص الشعري، وتكوين عناصره، وإنتاج التأثير المرجو منه.
ولو أحصينا قصائدنا التي تحقق استجابة جمالية لدى قارئها بلغة مرئية بعيدة عن الضجيج اللغوي الذي يعصف بالأذن، ويرغم العين على الانكفاء البصري لوجدناها قليلة، ولهذا فمن النادر أن يجري تلقي نصوصنا الشعرية عبر نوعين من الإنصات: إنصات سمعي، وإنصات بصري يجلسان معاً على مقعد التلقي، طالما تجردت لغة الشعر من الرؤية، وتحكمت أصواتها العالية بفعل الشعر، واستفرغته لضجتها. وغني عن البيان أن الصور التي نطالعها عادة في أشكال من استعارات وتشبيهات مفردة، مهما تكاثرتْ، في قصيدة ما ليس بوسعها أن تؤمن لهذه القصيدة الظهور في كيان مرئي لا يمكن تحقيقه إلا بضربٍ من الكتابة يبدو كما لو أنه أُنجِز بعيني الشاعر لا بلسانه، وعندئذ يمكن الحديث عن القصيدة الصورة، أو القصيدة المشهد، حيث الشاعر يفتح عينيه على ما يرى، ويسمع، ويتصور يقظاً أو نائماً، فيكتب.

1 - توأمة
فــــي فضـــــاء حديقــــــــة طلق؛ جمعت إــــــحدى المؤسســــات الثقافيـــــــة المستقلــــــــة عدداً من الشعـــــــراء بعدد آخـــــر مــن الرسامين في فعاليــــــة مشتركــــة للشعــــر والرســــم، حضرها جمهــــــــــــــور مهتم. كــــان الرسامون قد هيؤوا أدوات الرســـــــــم: عُلب الألـــــوان، و(كانفاسات) الرســــــم التي انتصبت علـــــى مساند مرتفعة، ومجموعـــــــة فُــــــــرش متنوعــة، وباليتات لخلط الألوان، وسوائل خاصة في أوعية. وما إن ذهب أحـــــد الشعـــــراء إلى المنصـــــــة وانطلق يقرأ قصيدته حتى شرع الرسامون ينهالون بالفرش التي اصطبغت بالألوان على أقمشة الرسم، كما لو أنهم في اختبار أن يجيبوا عن أسئلة الشعر بالرسم، وفي حال من التبعية للشعراء، ومضى الوقت في سباق وتنافس، أصوات الشعراء تتقارع بضجيج، وفرش الرسم تلهث وراءها بصمت، ربما فكر القائمون على تلك المؤسسة الثقافية بأن الهدف من الجمع، في لحظة واحدة، بين عمليتي إنشاء قصيدة، ورسم لوحة، هو إشهار أصل جامع بين الشعر والرسم، على العيان؛ لكن هذا الهدف أُطيح به بمجرد علمنا بأن قصائد الشعراء كانت قد اكتملت بناءً وتكويناً في زمن أسبق من زمن الفعالية المشتركة، مستجيبة ومنفعلة بتجارب ومؤثرات لا يعلم عنها الرسامون شيئاً. وكان ممكناً، اختيار تكوين مرئي، الحديقة التي جرت فيها الفعالية مثلاً، موضوعاً مشتركاً لقصائد تُكتب، ولوحات تُرسم في الحال، لتبرهن النتائج، أو تخفق في البرهنة، على ما يُعتقد أنه الأصل الجامع بين الشعر والرسم، مع اعترافنا بأن تجربة من هذا النوع ستكون متكلفة، وفيها ما فيها من القسر، فالفنون، عموماً، بناءات جمالية تفكيرية وليست فورية - بحسب ماتيس، الرسام الفرنسي المعروف.
أجلس دكتاتورنا السابق عدداً من الشعراء على بركة في قصره، وانطلق يُصرف مزاجه التعذيبي فأمر كل شاعر بارتجال نص شعري يصور بركته فوراً، وكان له ما أراد، وحتى الشاعر الأعمى لم يسلم من الابتلاء. كان الدكتاتور يلهو، بطبيعة الحال، ولم يكن يعنيه، أصلاً، الكشف عن أصل علاقة بين تكوين مرئي، وبين شعر، ولا كيف ينطلق الشعر من صورة هي أس الرسم أيضاً.

2 - حياء الرسم
الشعراء الذين امتلكوا، في أوقات بعيدة، أو قريبة مهارات أساسية في التصرف بعناصر اللغة البصرية؛ يمارسون الرسم، في فترات متقطعة، على استحياء، وتُطل رسومهم من الفجوات التي ينام في عتماتها (شيطان الشعر) بين القصائد. هؤلاء الشعراء نادراً ما يعرضون تلك الرسوم، أو يُطلعون عليها أحداً، إنهم يحتفظون بها وثائق ثانوية للتاريخ تحت وثائق الشعر الكبرى، لكنهم يحنون إلى الرسم، الملكة الأولى التي اكتشفوها في أنفسهم، يتذكرون سعادات العمل باليدين، وبهجة التعامل مع مواد ملموسة، وإغراء استخدام أدوات بعينها، ولذة العين وهي ترى، أخيراً، عالماً من الأشكال، والتكوينات، والخطوط يتولد ملوناً بمجرد تحريك فرشاة اصطبغت بالألوان على سطح ورقة، عالماً بوسعه أن يمنحهم فرصة أن يطالعوا فكرتهم مرئيةً، وإحساسهم مخلوقاً عيانياً متحركاً على الورق، ولا أحد بينهم إلا ويعترف بفضيلة الرسم حرفةً يدوية للخيال، ومجالاً للتعبير عن صمت الأشباح المتربصة بنا والقوى الخفية التي تخترقنا ولا يمكن إنطاقها بغير لغة الرسم.
في الغالب يتعفف الشعراء الرسامون عن ترصيع قصائدهم التي ينشرونها، في هذه الصحيفة أو تلك المجلة، برسومهم، فالأشد حيوية، بالنسبة إليهم، أن تكون فعالية الرسم متضمنة في أجساد القصائد، ولا تعيش خارجها في رسم مرافق لا يعدو كونه تزويقاً لا ضرورة له، ناهيك عن خطورة تحوله إلى عبء على تلقي نص شعري مكتفٍ بكيانه.

ذو صلة