أولى بول ريكور المحاكاة اهتماماً كبيراً من ناحية تمثيلها الأدبي للواقع بالحبكة التي هي عبارة عن إعادة تصوير العالم. ولأن الزمان هو السرد، والسرد هو الزمان؛ تكون الحبكة دائرية، حيث لا نهائية في المحاكاة بالتكرار والتمدد والاستعارة التي تجعل الزمان أبدياً بثلاثة أبعاد: 1/حاضر الماضي 2/ حاضر الحاضر 3/ حاضر المستقبل. ودائرية الحبكة تحتاج من العقل أن يؤدي ثلاث وظائف (التوقع والانتباه والذاكرة) في ثلاثة أفعال زمانية: فعل التوقع أي المستقبل، وفعل التذكر أي الماضي، وفعل الانتباه أي الحاضر. ومن ثم تكون للمحاكاة ثلاث درجات:
الأولى: غايتها تمثيل الفعل القبلي لما هو إنساني في دلالاته ونسقه الرمزي وزمانيته. وبناءً على هذا الفهم القبلي الذي يشترك فيه الشعراء والقراء؛ ينشأ الحبك ومعه المحاكاة النصية والأدبية. والثانية: فيها المحاكاة استعارية، فينفتح ملكوت (كأن) متوسطاً بين التاريخ والسرد، ويشكل تكرار القصة بديلاً عن تمثيل الزمان كجريان الماضي نحو المستقبل حتى ليبدو ما يسمى بالنسق الطبيعي للزمان وكأنه استذكار مقلوب، يجعل السرد منعكساً في فعل متابعة القصة. والثالثة: تقوم فيها التجربة الزمانية على (التنافر المتوافق) و(تتماهى الدائرة التأويلية بدائرة مراحل المحاكاة إلى تصور يسطِّر هذا الجدل في داخل دائرة أكبر عن شعرية السرد والتباسية الزمن).
وهذا الربط بين المحاكاة والتحبيك لا يعني أن ريكور يقصر حديثه على السرد دون الشعر، ففي السرد من السعة الحياتية ما يجعله شاملاً الشعر والتاريخ والدين والفلسفة واللغة.. وغيرها. وفيها جميعاً يحتبك الخطاب في تمثيل الواقع احتباكاً معه نتمكن من (أن ندرك الزمن ونقيسه أثناء انقضائه)، وبالتكرار الزماني غير النهائي يغدو تصوير العالم تجاوزياً، أي استعارياً بلا تطابق.
وإذا كانت المحاكاة الأفلاطونية فوتوغرافية تطابق الأصل، وكانت المحاكاة الأرسطية استعارية في تعبيرها عن الأصل؛ فإن المحاكاة التي يقصدها ريكور ستكون في درجتها الثالثة استعادية، غايتها التعليم، حيث (الحقيقة تعليم)، وهو ما كان الحكاؤون والقصاصون القدماء قد مارسوه مؤدبين ومعلمين للعامة والخاصة، جاعلين متلقيهم مقتنعين بصدق ما يروونه من أحداث غير طبيعية وشخصيات غير واقعية. والاستعارية هي التي منحت حكاياتهم وقصصهم حبكات تخييلية ذات عناصر لا طبيعية، غايتها نقل الخبرات وتقديم المواعظ والحكم. وساهم التدوين في جعل المحكي أكثر تمييزاً بين الديني والدنيوي سردياً وتاريخياً وشعرياً، ولكن لم يكن الفرق كبيراً في توظيف القوالب الفنية التي بها يدوّن ذلك المحكي.
من هنا تتضح خطورة اللامحاكاة في درجتها الثالثة الاستعارية، ولعل هذا ما قاد أهم منظري السرد غير الطبيعي وهو براين ريتشاردسون إلى وضع تصور نظري للمحاكاة في كتابه (شعرية الحبكة في القرن الحادي والعشرين) 2019. ولا نغالي إذا قلنا إن علم السرد ما بعد الكلاسيكي قد أحدث تغييراً براغماتياً في النظرية السردية، فسلطت الأضواء على أعمال سردية كانت مهمشة أو ثانوية في النظرية السردية الكلاسيكية كقصص بوكاشيو وبعض الروايات الحداثية وما بعد الحداثية والتي تحوي عناصر غير طبيعية كروايات ببيكيت وكافكا وبورخس.
ونسيان حقيقة الخيالية واللامحاكاة في السرديات أو بالأحرى تقليل أهميتها؛ كان بسبب البنيويين الذين ألغوا دور المؤلف وأحالوه إلى سارد هو ذات ثانية ضمنية للمؤلف، منكرين وظيفته التعليمية، وصار التلاقي بين المؤلف والسارد عند نقاد السرديات الكلاسيكية مستحيلاً.
ولقد توضح قصور بعض هذه التصورات عند البنيويين أنفسهم، لاسيما من ناحية تداخل السرد بالتاريخ الذي فيه يكون المؤلف مؤرخاً يستعمل التخييل السردي، وسارداً يستعمل التخييل التاريخي، ومن ثم يكون في السرد غير الواقعي حكّاء يستعيد باللامحاكاة صيغته الطبيعية بدرجة ثالثة، فيها الخرافة (بمعناها الاستحالي) ممكنة وفق قانون الاحتمال الأرسطي. وقد اجتمع في الواقع الموضوعي المستحيل والممكن معاً، وغدا المؤلف هو المؤرخ وهو السارد وهو الحكاء الذي يقدم للجمهور سرداً هو شكل من أشكال المعرفة وبعلاقة زمانية حاضرة معيشة وغابرة مستعادة؛ ما نجده اليوم في الروايات والقصص غير الواقعية التي يحاكي مؤلفوها ما كان أسلافهم الحكاؤون يفعلونه في سرودهم موازنين بين التعلم والتعرف والتاريخ.
فرافقت الشعرية الحكاية واختلط الإخبار بالقص، وغدا التخييل هو الفيصل في التمييز بين القوالب الأدبية بسرديّها وشعريّها. ومن ثم تظل المحاكاة واحدة تتأرجح بين الدرجتين الثانية والثالثة. وما التكرار والإعادة في بنية الحكاية التي عرفتها مرويات ما قبل الإسلام؛ سوى استعادة لما في ملحمة جلجامش من محاكاة شخصيات وأحداث وبزمانية متخيلة فيها الحبكة عبارة عن أحداث متتالية لا فرق فيها بين المحتمل والحتمي، ولا مجال للشك فيما يرويه السارد الموضوعي عن عمومية الشخصية ولا معقوليتها، بناء على لذة المعرفة في التعرف على الحقيقة. والتعرف يعني الانقلاب الذي يأتي من الإدهاش. وهذا كله هو ما يعمد السرد غير الطبيعي اليوم إلى استعادته، صانعاً حبكة دائرية قولية فيها: أولاً: سوء فهم قبلي خرافي، وثانياً: فهم توتري وانقلابي علمي، وثالثاً: فهم تام أي بعدي يراهن على أنه حقيقي.
هذه الغائية التي عليها السرديات غير الطبيعية هي نفسها غائية السرد القديم الذي كان تعليمياً والمتلقون يعملون من أنفسهم حلقة مركزها الحكاء الذي كان في فجر البشرية قائداً ثم تحول في عصور لاحقة إلى مؤدب ومعلم وعرّاف ومفسر. وصار نديماً للملوك والحكام، يأخذون من حكاياته وقصصه العبرة السياسية والحكمة الاجتماعية، معتمدين عليه أيضاً في رواية أخبارهم وكتابة تواريخهم التي بها تدوم أسماؤهم وإنجازاتهم فتتناقلها الأجيال من دون إشكال في تصديق سردية هذه الأخبار، بل بمقصدية تعلم ما في هذه الأخبار من تجارب وخبرات.
إذن بالتخييل ومحاكاة الواقع، شكّل الحكاؤون أول مدرسة، وصار السرد هو الحياة بكل معارفها، وهنا لا بد لنا من أن نتساءل عن اللاطبيعية في الحكاية التي تعتمد على المحاكاة في درجتها الثالثة؟ وكيف تتحقق تعليمية القص من ورائها؟
لا تتحدد الفاعلية اللاطبيعية بالتتابع في الأحداث والأفعال والتجارب التي قام بها بطل أو خضع لها عدد معلوم من الشخصيات سواء أكانوا حقيقيين أم خياليين، وإنما هو التتابع في الأقوال والأخبار أو الخبرات التي ينقلها (ولا أقول يسردها) الحكاء عن أبطال طبيعيين لكن الأحداث خيالية أو بالعكس تكون الأحداث طبيعية لكن الأبطال خياليون أو أن الأبطال والأحداث معاً تكون خيالية.
إن الخيالية في السرد غير الواقعي هي التي تجعل عملية المحاكاة في درجتها الثالثة ممكنة وطبيعية، فيتحول التتابع القصصي من التصور إلى إعادة التصوير، ويصبح القارئ قادراً على تأويل العالم القصصي للنص بالعالم الواقعي لديه. وهذا التأويل هو بدوره عملية تحويل القراءة من كونها ممارسة إلى أن تكون وسيطاً ضرورياً لإعادة فهم النص واستيعاب أبعاده.
والعلاقة طردية بين التخييل والمحاكاة، فكلما تصاعد التخييل، كانت المحاكاة أكثر معقولية في تحبيك الواقع تحبيكاً يقوم على (التوافق المتنافر) الذي هو رابطة أقامها أرسطو بين المحتمل والمقبول أو المُقنع ضمن سياق يربط الأسباب بالنتائج، فتكون الحبكة متوالية، حيث الشيء يجري في أثر الشيء. وهو أمر دشنته ملحمة جلجامش، فكانت اللامعقولات تترى مترابطة في مأساوية المحتمل الذي يحصل تحت ضغط غير المحتمل. والمحصلة هي الإدهاش الذي معه يحتبك الممكن القابل للتصديق مع المستحيل غير القابل للتصديق.
وبالإدهاش يكون التعلم والتعرف قد تحقق، وغدت الحقيقة حاضرة في ما يقوله السارد/الشاعر وبوسائل استعارية تتخيل كل ما هو غريب وعجيب بعيداً عن الوصفية الفوتوغرافية.
وإذا كان التعلم هو الغاية، فإن درجة المحاكاة تظل احتمالية وقابلة للتصديق في ما كان وما يكون وما سيكون. وهو ما درجت عليه المرويات العربية القديمة وما زال السرد غير الواقعي يسير عليه إلى اليوم. والتعلم متعة تتحقق بمعقولية توافق التنافرات حيث المستحيل المعقول أفضل من الممكن غير المعقول، وهذه الأفضلية تجعل السارد مهيمناً على متلقيه الذين يشاركونه التعجب والإدهاش.