الموت هو النقطة التي تحدد نهاية جملة وجودنا. يعيش الجميع بشكل مختلف، ولكن لابد في النهاية أن ننتقل إلى سطر جديد. كل شخص يواجه الموت عبر رؤيته الخاصة. إن الحديث عن الحياة أسهل وأكثر أماناً. نحن نختبر في الحياة اليومية معاني العيش، حتى لو لم ندرك تماماً الغرض من ذلك. الموت هو الوجهة التي لا نريدها في الحديث، وحين يسلك أحد ما طريقه إليها فإن التفسيرات تتركه يتوه في فوضى التقاطعات. ومن مهام الفن أن يترجم الحياة، فحساسية الفنان تضع العالم في قالب وتمنحه تفسيراً خاصاً. وفي الشعر، ينسج أبو العلاء المعري تأملاته للحياة والموت، عندما قال:
ضجعةُ الموتِ رقدةٌ يستريح الـ
جسمُ فيها والعيشُ مثل السهادِ
وعند الأمريكية إيميلي ديكنسون:
لأنني لم أستطع أن أوقف الموت
فإنه استوقفني بكل لطف؛
حملتنا عربة الموت
لا يرافقنا سوى
الخلود
وفي لوحة (الحياة والموت) لجوستاف كليمت، التي اكتملت في عام 1915م، هناك تجسيد للتناقض بين الحياة والموت في كل المخاوف الإنسانية. وكأنّ الموت يتربّص بتلك الشخصيات النائمة التي تروي حياة الإنسان. في اللوحة مشاهد مختلفة من الحياة، تمتد من الطفولة حتى الشيخوخة. وللفنان الفرنسي (بول غوغان) لوحة (من أين أتينا؟ ماذا نحن؟ إلى أين نحن ذاهبون؟) وهي أكبر لوحة قام بها على الإطلاق. عمل ضخم ومدهش، بدقة رهيبة وغامضة، كان عنوانها بحدّ ذاته تساؤلاً عميقاً عن ماهية الحياة والموت والشعر والمعاني الرمزية. تحوي العديد من الشخصيات البشرية والحيوانية مرتبة عبر منظر طبيعي للجزيرة. تمثّل اللوحة طيف النشاط البشري، من الولادة إلى الموت. أراد (غوغان) تفسير الحياة على أنها لغز كبير، وفي اللوحة، أكّد على عدم فهم العالم.
أما على مستوى الشاشة، تحديداً العمل التلفزيوني، أحبّ الوقوف عند هذا المسلسل والتحدث عنه لساعات طويلة مع الأصدقاء، أو مع نفسي. إنه يذكّرني بما حدث لي من تجارب حيّة وواقعية، شاهدت من خلالها الموت بأشكال مختلفة. نهاراً، ليلاً، صيفاً، شتاءً، في المستشفى، في المنزل، عبر الهاتف، في نزهة بريّة. تعدّدت الأحداث، والموت واحد. وأسوأ موت يمكن تخيّله هو موت الكائن الذي منحنا الحياة. وغالباً ما يكون الاستحضار المرئي للموت هو أفضل آلية لاستعادة الذكريات وخلقها من جديد بأعين رطبة. دائماً ما كنت شاهداً على حضوره، وقفت طويلاً على حافة ظلّه، حتى اختلطت علي ملامحي، ولا يكاد يتعرف علي أحد. كنت أتحاشى التفكير فيه، الحديث عنه، حتى استسلمت له وتعرفت عليه عن قرب، لذلك، توقفت منذ زمن عن التحايل على الموت.
عن ماذا يتحدث المسلسل؟ الموت. في الواقع لا. بل الحياة. هذا الخيط المشدود من الولادة حتى الموت والذي يبلى ويضعف مع مرور الوقت والأحداث والصدمات. الموت في (ستة أقدام تحت الأرض)، ينبع في كل مكان. يملأ الموت فكرة أن يعيش المرء حياته. المسلسل لا يزال حياً، حتى لو كان الموت لا يزال كامناً وحقيقياً. عليك أن تموت، أو حتى تعاني من موت قريب، لتعيش حياتك. يتعلق الأمر في هذا المسلسل بالفحص المكثّف لموضوع الموت، سواءً كان ذلك على المستوى الشخصي أو الديني أو الفلسفي.
إذا كان (ستة أقدام تحت الأرض) يختلف عن المسلسلات الأخرى، فذلك لأنه بدلاً من الانغلاق التام على الميلودراما، الفخ الذي لا يعرف البعض كيف يتجنبه مع مثل هذا الموضوع الشائك، تأتي لمسة من السخرية والفكاهة السوداء لتكمل بقية الوصفة، وتظهره بهذا المنظر الرائع. لهذا المسلسل بُعد إنساني واجتماعي استثنائي، يتحدث عن كل شيء، بواقعية ترسل أحياناً رعشات مستمرة إلى أسفل عمودك الفقري، وصولاً إلى نبضات القلب. المسلسل لا ينحاز أبداً إلى أي جانب، وهذا ما يجعله أحد نقاط قوته الرئيسة، لأنه يشجّع المشاهد على طرح الأسئلة، ويدفعنا للتفكير بأنفسنا.
الأدوات الأسلوبية المهمة والمتكررة في السلسلة هي (محادثات الموتى)، والتي تسمح بإلقاء نظرة عميقة على ماهية الموت وأسراره. لدينا دائماً ميل إلى سرد الأشياء، بما في ذلك الطريقة التي نتعامل بها مع العالم. إن إعادة سرد الموتى، ووضعهم في القصص، هو قبل كل شيء وسيلة لمواصلة إثبات وجودهم، طريقة لإطالة أمد العمل الإبداعي الذي يمنح الموتى عمقاً وحيوية. في المسلسل، يستمر الشخص الميت في التمثيل، وفي الوجود، ومن خلال المشاهد يستمر الناس في تجربة وجوده. وفي أعقابه، لا يزال طليقاً إلى الأبد، ثائراً على كل شيء، يطارد ذكرياتنا وذكرياته. إنه شكل من أشكال إعادة خلق الذاكرة. الحوار بين الموتى والأحياء هو ضمير أولئك الذين بقوا. إنه يشبه الحصول على لكمة قوية خلال مباراة ملاكمة. تشعر بفقدان أنفاسك، عدم القدرة على النهوض، الخصم ينظر إليك مباشرة، واثقاً من نفسه، بلمسة من الازدراء، يسخر منك باستمرار، يسألك هذا السؤال، دون أن يقوله: هل تفهم الآن؟ هل عرفت معنى الموت؟ وهكذا، على مدار المسلسل، تغلب على المشاهد شعور محدد:
هو شعور الحياة اليومية للموت. وهو شعور كان حتى ذلك الحين من اختصاص عائلة (فيشر).
وهناك جانب آخر مثير للاهتمام، حاضر بشكل خاص في الموسم الأول من المسلسل، وهو تجاور مثالين مختلفين لتجربة الموت والطقوس المرتبطة به. يتم تجسيد النهجين المختلفين من قبل الأخوين. من ناحية، نرى (ديفيد)، الذي اعتاد على القيام بعمله كمدير جنازة، اكتسب تلك الانضباطية التامة: يجب أن يكون الموت نظيفاً ولائقاً، ويجب كبح المشاعر قدر الإمكان. كل شيء يتم بطريقة منظمة ومعقمة، والغرض من الجنازة هو العمل. من ناحية أخرى، فإن فكرة (نيت) مختلفة، لأنه يجسد بالكامل فكرة الموت مع أهمية كبيرة للمشاعر، وعلاقة إنسانية أكبر في مرافقة الحداد، وأهمية الطقوس وتحقيق رغبات الموتى.
بالنسبة لي، كان (نيت فيشر) عبارة عن خليط من أشياء كثيرة، معقدة ومتعددة الأوجه، لقد كان شخصية حزينة ورائعة تتشكل على مدار المسلسل. إنه حساس للغاية، شديد التعاطف مع الآخرين، يتأثر بألم ومعاناة من حوله. أحد الجوانب الأكثر لفتاً للانتباه في شخصية (نيت) هو صراعه مع فنائه. شخصية متضاربة بشدة، وغالباً ما يكافح من أجل هويته الخاصة. ممزق بين رغبته في حياة أكثر واقعية وذات معنى، وخوفه من اتخاذ الخيارات الخاطئة ومواجهة العواقب. يعاني من القلق والخوف من الموت، وتنعكس هذه الصراعات الداخلية في علاقاته مع من حوله. من أكثر الجوانب المؤثرة في شخصية (نيت) علاقته بوالده (ناثانيال). لديه تاريخ معقد مع والده، الذي يراه متعجرفاً وناقداً. ومع ذلك، مع تقدم المسلسل، نرى أن (نيت) لديه أيضاً حب عميق لوالده. كان لوفاة (ناثانيال) في وقت مبكر من المسلسل تأثير عميق على حياة (نيت)، مما مهّد الطريق لتطور شخصيته طوال المسلسل.
هناك العديد من الأوقات واللحظات حيث يكون افتقار (نيت) للتقدم مثيراً للجنون، لكن أليس هذا هو الحال في كثير من الأحيان مع الأشخاص في حياتنا الحقيقية؟ نقضي حياتنا في محاولة التغلّب على الألم والعقبات. نبذل قصارى جهدنا. لا يوجد دليل للحياة، يوضّح لنا الحل لأي مشكلة معينة قد نواجهها. نتعثر ونسقط، ثم نعود ونحاول من جديد. ومع ذلك، أوضح لنا (نيت فيشر) أن الحياة قصيرة. يمكن أن تنتهي في أي لحظة. مثلاً، في سن الأربعين كما حدث بالنسبة له، وهو عمر يعتقد معظم الناس أنه منتصف الطريق في هذه الرحلة. هل نعيش الحياة بالطريقة التي نريدها؟ هل نقوم بالأشياء التي نريدها أم أننا نعيش لإرضاء الآخرين؟ (نيت فيشر) سيكون له دائماً مكان عميق في قلبي. لقد سقط كثيراً، واستمر بالنهوض، وبذل كل جهده ليظل رجلاً صالحاً. يلهم من حوله.