في عبارته الخالدة يقول الموسيقار الألماني العالمي بيتهوفن: (من عمل بيده فهو عامل، ومن عمل بيده وعقله فهو صانع، ومن عمل بيده وعقله وقلبه فهو فنان). ويبدو أن من يعمل في تحويل الفضة ذلك المعدن النفيس والذي تُضرب به الأمثال ومنها: (إذا الكلام من ذهب فالسكوت من فضة.. وجاءه على طبق من فضة.. وفي فمه ملعقة من فضة.. إلخ) إلى أعمال فنية ومصوغات وأدوات منزلية مترفة باستخدام طريقة متميزة ونادرة يطلقون عليها (كسر الجفت) فإنهم اعتمدوا الحالة الثالثة من مقولة بيتهوفن حيث يعملون بثلاث مفردات: (أيديهم وعقلهم وقلبهم) فتخرج منتجات عليها بصماتهم وروحهم لا تشبه إلا نفسها ولا تشبه الواحدة الأخرى.
ولكن ما هو كسر الجفت ومن أين جاء؟ يؤكد الباحثون والمهتمون أنه طريقة يدوية مبتكرة وعريقة بالتعامل مع الفضة بشكل رئيس، تعتمد على لوي السبيكة الفضية بعد صهرها وقولبتها من قبل الحرفي بالطريقة التي يرغبها وبعد تحويلها إلى شرائط مجدولة ومرصوصة وملحومة بشكل متقن حيث لا تأخذ شكلها الجميل إلا بالصناعة اليدوية وتستخدم للعرض أو لارتدائها من قبل النساء، وباستخدام ملقط دقيق يسمى (الجفت) يتم من خلاله التقاط كسرات الفضة الناعمة جداً لتحويلها لعمل فني يدوي بأشكال وأحجام مختلفة تبدأ من الخاتم والأساور والطوق وربما تنتهي في أعمال كبيرة كالصواني والصحون والتماثيل والمجسمات وغير ذلك.
وكسر الجفت اشتهرت به -ومازالت- مدينة حلب السورية، وهي المدينة العربية الوحيدة التي يتواجد فيها حرفيو كسر الجفت وأغلبهم من السوريين ذوي الأصول الأرمنية الذين أدخلوا هذا الفن والصياغة إلى سوريا قبل قرن من الزمن بعد أن انقرضت تقريباً في موطنها الأول (البرتغال) لتنتقل إلى أرمينيا حيث مازالت قائمة ولكن بشكل محدود جداً ولتنتعش أكثر في مدينة حلب ولتتواجد منتجاتها في السنوات الأخيرة في بعض بلدان الخليج من خلال عدد من الحرفيين الأرمن السوريين الذين يعملون هناك في حرفة صياغة الذهب والفضة والأحجار الكريمة.
رسومات وأشكال هندسية
وحسب العاملين في هذا الفن اليدوي فإن (كسر الجفت) يعد أحد أنواع صياغة الفضة، ويسمى بذلك لأن طريقة تنفيذه تتم بالملقط، فعندما يتم تطبيق قطع الفضة الرقيقة الناعمة ومن ثم لفها وتدويرها وقولبتها حسب الشكل الذي يريده المصنع ليتم تصفيفها وتلحيمها فيما بعد، يستخدم هنا الجفت (الملقط)، ولذلك عندما نقول كسر الجفت أي نقصد تطبيق بالجفت إذ يتم تطبيق الرسمة التي يريدها والشكل الذي يرغبه إن كان شكلاً هندسياً أو فنجاناً مثلاً أو صينية يطبقها بالرسمة التي يكون قد حضَّرها مسبقاً لتأتي بعد ذلك مرحلة التلحيم بـ(الشلمون). والمطلوب هنا بداية أن تكون الفضة التي يتعامل معها المصنّع خاماً (روباص: والروباص كلمة تركية تعني الشيء الصافي) بعيار 1000 أو 999 لأن أي إضافة لسبيكة الفضة مثل النحاس فلن يتمكن المصنّع من إنجاز العمل مطلقاً والسبب عندما يكسّر بالجفت تتناثر القطع في حال كانت الفضة غير خام، بينما الفضة الخام تكون طرية ولينة تساعده على العمل فيكسّر ويطبق ويلحم بشكل سلس.
نماذج متنوعة
هناك نماذج متنوعة من كسر الجفت كصحون فضة خام روباص منفذة بشكل دقيق جداً وتتضمن وروداً وأزاهير، والوردة هنا منفذة بالملقط الجفت حيث يتم التقاط القطع الصغيرة جداً بهذا الملقط لتنفيذ تصميم الوردة، والملفت هنا، أنه في ورش تصنيع كسر الجفت فإن من يصف ويلف القطع الناعمة بالجفت هم (فتيات) حيث يحتاج العمل هنا لبال طويل وصبر وأناة، فمثلاً تقوم أربع فتيات بالعمل في القطعة الواحدة وكل واحدة تستلم جزءاً من القطعة كالوردة أو الأطراف أو اللوزة، وبعد ذلك يقوم الشباب الحرفيون بتنفيذ الرسمة كما هي مقررة، فعلى سبيل المثال إن كانت القطعة المنتجة بكسر الجفت، والتي تبلغ أبعادها 15سم (طول) و10سم (عرض)، تحتاج لعمل نحو عشرة أيام، أي أنها تحتاج لوقت وبال طويلين، لذا تعد من أصعب الأعمال اليدوية بصياغة الفضة والذهب على الإطلاق، فالعمل يدوي بحت لا وجود للآلة مطلقاً، حتى طريقة سحب الشرائط لتأسيس القطعة 70 % منها يدوي، لأن إنتاج شريط بسماكة 1ديزيم لا يتم إلا يدوياً في حين الآلة تسحب لحد معين وهو 10ديزيم أي 1ميلليمتر.
متطلبات العمل ومراحله
يأتي الحرفي بالفضة الخام، ويصهره من خلال طريقتين؛ إما باستخدام الشريط المبروم الناعم أو باستخدام شريط السحب والرص بحيث يتحول لشكل منبسط بعد عملية الرص ولكي يعطيه نموذجين الأول (مبروم) بعرض يتراوح بين 5 ديزيم و1ميلليمتر (10ديزيم) و(المرصوص) بعرض يتراوح بين 1 و3 ميلليمتر، وتتحكم بذلك نوع الرسمة التي يريد تنفيذها، بعد مرحلة الصف للقطع الناعمة تبدأ عملية التلحيم وهي مرحلة يدوية بحتة تتم بالشلمون (أنبوب التلحيم) مع الجفت فيقوم بالتلحيم بشكل دقيق والمادة المستخدمة هنا للتلحيم تكون على شكل (بودرة) وبعد صبها يأتي بمادة ثانية ملينة تسمى (كادميوم) وهي مادة كيميائية كربونية اكتشفت عام 1817م حيث يستعملها بمعايير دقيقة وهي 10 % لكل مئة غرام كاديميوم لكي تعطيه الليونة الضرورية وليذوب قبل الفضة حيث يأتي بالسبيكة التي وضع عليها المادة الملينة ويقوم ببردها بشكل متواصل لينتج لديه كميات معينة من برادة اللحام والتي يستخدمها للرش على الرسمة مثل الوردة هنا ويُحمّيها حتى تلتحم على بعضها ولا يظهر اللحام لكي لا يحصل بالتالي تشوهات في الرسمة بل تعطيه الرسمة كما هي إن كانت (وردة أو فلّة أو سَبَلَة) بالطبع سيتحول اللون أثناء التلحيم من الأبيض إلى الرمادي فالأسود وعندما ينتهي منها يحمّيها لينظفها من المخلفات ويحمّيها مرة جديدة ويضعها في مادة حمض الكبريت الممدد لتعود إلى اللون الأبيض النقي ولتكون نظيفة تماماً بعد ذلك تتم عملية الجلي وتُنَفَذْ بالفرشاية اليدوية المصنعة من النحاس وفي المرحلة النهائية ولإعطاء القطعة اللمعان المطلوب تتم عملية (التثقيل) وهي التحريك على الخطوط (السادة) فتعطي لمعاناً وتوهجاً داخل القطعة الواحدة مما يزيد من جمالياتها، وهنا تنجز القطعة وتعرض فيما بعد للبيع والاقتناء.
كسر الجفت عمل يدوي لا ينجح بالآلة مطلقاً
ولكن كيف يمكن التمييز بين القطعة الفضية المنتجة بكسر الجفت وبين تلك المنتجة آلياً أو بغير هذه الطريقة؟ يؤكد العاملون بهذه الحرفة النادرة أنّ أي شخص يعرف القطعة المنتجة يدوياً بكسر الجفت لأنه من المستحيل إنتاجها بآلة أو قالب أو أي أداة أخرى غير الجفت، يكفي النظر إليها لمعرفة أنها مصنعة بشكل يدوي حيث الفراغات هنا تدلنا على ذلك، البعض جرّب الإنتاج من خلال طريقة صب الفضة وأنتجوا صحوناً بالصب ولكن فشلوا حيث نَتَجَ معهم صحن بوزن 350 غرام وبنظافة أقل بمقدار النصف عن كسر الجفت ففي حين أن المنتج بكسر الجفت وزنه 150غراماً وهو رشيق ونظيف مئة بالمئة، فالوزن هنا الضعف في كسر الجفت مثلاً الكأس وزنها 100غرام بطريقة كسر الجفت في طريقة الصب سيكون وزنها 175غراماً على الأقل ومن المُحَالْ أن تُنْتَج بنفس وزن ورشاقة كسر الجفت والسبب أن المسامات والفراغات لا تظهر إلا بكسر الجفت، أما بطريقة الصب فستكون الفراغات أقل وبالتالي ستأخذ سماكة أكثر والمادة الخام أكثر وبالتالي تأخذ وزناً زائداً، واضحاً تماماً 50 % أقل وزن وصورة وجمال لا يمكن الغش بها مطلقاً. والمثير للانتباه هنا، أن تسعير أي قطعة منتجة بكسر الجفت يتم بشكل دقيق ومختلف عن المصوغات الأخرى، فأي قطعة تسعر على أساس 40 % ثمن وزن الفضة حسب تسعيرة الغرام العالمي المتغير يومياً، و60 % ثمن العمل وذلك حسب القطعة ووزنها إلا القطع الكبيرة مثل الصواني فتحسب 50 % ثمن الفضة ويضاف لها 50 % أجور العمل، إذ عندما ننفذ قطعة بوزن كيلو تختلف عن قطعة بوزن 100غرام مثلاً. (مثال الصحن بوزن 150غراماً إذا كان سعره 100 دولار أمريكي فسيكون سعر الفضة فيه 40 دولاراً وقيمة العمل 60 دولاراً).
لقد حاول البعض في بلدان عديدة تقليد كسر الجفت ولكن لم يفلحوا، فمثلاً في الهند يتواجد ولكن لا ينتج معهم ناعماً كالأصلي، فيشاهد هناك فراغات واسعة في القطعة وهذا يعيبها بينما المنتج الأصلي أدق بكثير وأنعم ومتصل ببعضه وينتج نماذج جميلة.
خيال المصنّع في المنتج
في العمل بكسر الجفت من الممكن الاعتماد على خيال المصنّع وهو عليه أن يتقن العمل تماماً وأن يعتمد على تراث الأجداد ليتمكن من الإبداع في هذا المجال، عليه أولاً أن يتعلم العمل مرحلة مرحلة وأن يطلع على التراث ليستطيع إنتاج تحفة تراثية ومتقنة ولتظهر جمالياتها فأي قطعة تصنّع يجب أن يكون فيها روح المصنع الحرفي مثل الرسام ليترك بصمته على المنتج حتى يشعر الزائر أن القطعة فيها روح مصنعها. إن كل شخص له بصمته وله منتجاته الخاصة يُعرف بها وطريقته خاصة بالصناعة فكل واحد له طريقته وله بصمته الأخيرة على المنتج، كذلك يمكن استخدام الألوان مثل استخدام اللون الذهبي على كسر الجفت الفضي أو العكس الفضي على المنتج الذهبي وألوان أخرى كالأخضر والأزرق من خلال الطلاء بمادة (المينا)، كذلك من الممكن العمل بالذهب في كسر الجفت حيث تحويل سبيكة الذهب الصافي عيار 24 أو 21 والعيار الثاني الأكثر استخداماً، فمن الممكن استخدام هذا العيار لأن طريقة الليونة أحنّ من الفضة، ويتم بنفس طريقة العمل مع الفضة ولطن بالتأكيد ستكون المنتجات ثمينة جداً ومكلفة لغلاء سبيكة الذهب والتي تسعّر عالمياً وهي أضعاف أسعار أونصة الفضّة (مثلاً السعر لأونصة الذهب في الفترة الحالية نحو 1800 دولار أمريكي بينما سعر أونصة الفضة نحو 24 دولاراً أي الفرق بينهما 75 ضعفاً لصالح الذهب).