مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

The Dropout إن لم يتحقق حلم حياتك.. هل تزيفه؟

عام 1984 عُرض فيلم (واحدة بواحدة) بطولة عادل إمام، مجسداً به شخصية (صلاح فؤاد)، وهو منتج بشركة إعلانات ومتعدد العلاقات النسائية، وفي محاولة منه للتهرّب من وعد أعطاه لفتاة أن تكون نجمة إعلانات، طلب من صديقه (قام بدوره المخرج محمد خان) أن يُخرج لها عدة إعلانات لشيء وهمي يدعى (الفنكوش)، وبدلاً من أن تنتهي المشكلة عند هذا الحد، أمر صاحب الشركة (أحمد راتب) الذي لا يعرف سير العمل أن تُذاع الإعلانات فوراً على محطات التلفزيون، والمفاجأة أن الإعلانات نجحت جماهيرياً، وبدأت الناس تطالب بشراء ذلك الفنكوش الغامض، وهكذا تورطوا جميعاً في الإعلان عن سراب لا أصل له، وأصبح من اللازم اختراع ذلك المُنتَج فوراً وإلا سيحالون إلى جهات التحقيق. حسناً ماذا لو أخبرتك أن تلك الحكاية ليست بعيدة تماماً عن الواقع، وأن هناك قصة حقيقية مشابهة وقعت أحداثها بالولايات المتحدة، مع فارق أن المحتال هذه المرة فتاة جامعية لم تكن قد بلغت العشرين من عمرها، عندما أسست شركة استمرت خمسة عشر عاماً، وضم مجلس إدارتها أشخاصاً من ألمع عقول وادي السيلكون وجامعة ستانفورد ورجال أعمال وسياسيين كبار، وبلغت ميزانيتها نحو تسعة مليارات دولار، من أجل مُنتَج لم يظهر أبداً للوجود، مجرد (فنكوش)!
بنبوءة تشبه النبوءة التي غيرت حياة ماكبث في المسرحية الخالدة لويليام شكسبير، كتبت الفتاة الصغيرة (إليزابث هولمز) ذات السبعة أعوام خطاباً لأبيها تقول فيه: (أبي العزيز، ما أريده حقاً من الحياة، هو اكتشاف شيء جديد، شيء لم تكن تعلم البشرية أنه ممكن)، والإحالة لماكبث هذه المرة، تأتي من كونهما: شخصيتين امتلكتا طموحاً بلا حدود، قادهما إلى مأساة عظيمة. انتهت بمقتل ماكبث، وبالسجن لأكثر من أحد عشر عاماً لإليزابث بعدما أدينت رسمياً بالاحتيال، وبدأت تنفيذ العقوبة ابتداًء من 30 مايو 2023.
منذ تفتح وعي إليزابث وهي تسمع حكايات عن أحد أجدادها القدماء (تشارلز لويس فليشمان)، وهو الرجل الذي اخترع الخميرة الفورية، وأحدث طفرة في صناعة الخبز على مستوى العالم، وأصبح يمتلك أكبر مصنع للخميرة، إضافة لعدد كبير من براءات الاختراع المرتبطة بالتخمير. أَسَرَتها تلك الحكاية، وجعلتها نصب عينيها دائماً، خصوصاً مع الظروف المادية المضطربة لأسرتها، واضطرارهم للانتقال من بيت لآخر ومن ولاية لأخرى، رأت إليزابث أن اختراع شيء جديد يفيد البشرية، هو طريقها الوحيدة لتصبح مليونيرة.
وهكذا بدأت محاولاتها للوصول إلى ذلك الاختراع منذ عامها الدراسي الأول بجامعة ستانفورد، حيث كانت تدرس الهندسة الكيمائية، وفي عامها الدراسي الثاني، توصلت إلى فكرة مبدئية عن اختراع صغير في حجم الآيبود، يستطيع بقطرة دم واحدة، إجراء مئات الاختبارات والتحاليل بطريقة أسهل وأرخص من المعامل التقليدية الكبيرة، وهذا الجهاز سيتمكن من إنقاذ حياة الناس، خصوصاً أنه يمكن حمله في أي مكان، واستطاعت أن تقنع والديها أن تترك التعليم وتؤسس ببقية أموال دراستها شركتها لتصنيع اختراعها، وأقنعت أيضاً أستاذها بالجامعة بالالتحاق بالشركة، وجمعت من العائلة والأصدقاء مبلغ ستة ملايين دولار نواةً أولية للمشروع.
والحقيقة أن مأساة إليزابث بدأت تحديداً منذ تلك اللحظة، فقد كان بإمكانها أن تكمل دراساتها التي كانت مجتهدة فيها بحق، وتصبح صاحبة براءات اختراع حقيقية، وتسير في المسار الطبيعي المتوافق مع سنها وخبرتها الحياتية كما نصحها أساتذتها بالجامعة، إلا أن هوس إليزابث بجدها، وهوسها بستيف جوبز مؤسس شركة آبل، فاق كل الحدود، فهي لم تسعَ فقط لاستنساخ ظهوره الدائم بملابس سوداء، ولكنها أيضاً سعت دائماً للحصول على موظفي الشركة للعمل لديها، وبالفعل استطاعت ذلك، وحصلت على أحد الأعضاء المؤسسين للشركة، بالإضافة إلى مصممة الآيفون نفسها لتصميم اختراعها الذي لم يظهر أبداً، فتحولت من باحثة وعالمة إلى رائدة أعمال، لم تعد تفهم حتى التفاصيل الفنية للاختراع الذي وضعت فكرته بالتعاون مع أحد علماء ستانفورد، وكرست كل وقتها لجذب الاستثمارات وكيفية تأمين مصادر دخل لشركة في الحقيقة لا تنتج أي شيء!
ثراء شخصية إليزابث هولمز الحقيقية، والقصة المذهلة وراء واحدة من أكبر عمليات الاحتيال على الإطلاق، قد تجعلك تظن أن نقلها إلى مسلسل درامي أمر سهل، ولكن هذا اعتقاد خاطئ، صحيح أن المادة الدرامية دسمة للغاية، ولكن تشابكها وتعدد شخصياتها، والتداخل الزمني بين الأحداث المتوازية، وفهم واستنباط تصرفات الشخصية من بين سطور المادة الصحفية؛ ليس بالسهل، وهنا تكمن روعة السيناريو الذي قدمته (إليزابيث ميريويذر)، بالتعاون مع فريق كتابة مكون من ستة أشخاص، ليتمكنوا من سرد ما يقترب من عشرين عاماً وبوجود عشرات الأشخاص دون أن تشعر ولو للحظة أنك فقدت تواصلك أو اهتمامك أو تشوقك لما سيحدث ولو للحظة واحدة.
يختار السيناريو أن يبدأ بعد تشويقة متوقعة تضم لحظات متناقضة من التحقيق القضائي ولقاء إعلامي يُظهر ذروة النجاح، ليخلق تساؤلاً حول ما حدث، يبدأ الظهور الحقيقي الأول لإليزابث وهي طفلة في المركز الأخير من سباق للجري، ومع ذلك لا تستسلم وتكمل الركض حتى وإن لم يكن لذلك أي معنى في الحقيقة، وهو مشهد شديد الذكاء من أكثر من ناحية، فهو يقول إن إليزابث قد لا تكون الأنجح في مجالها، على الرغم من ذلك فإن عنادها سيجعلها تعدو حتى النهاية، المشهد التالي والذي يليه يمثلان مزيداً من الضغط النفسي على إليزابث لكي يكون حلمها وقرارها أمراً لا رجعة فيه، فهي تعود من المدرسة لتجد والدها (كريستيان هولمز) الذي كان نائباً لرئيس شركة (إنرون) للطاقة، قد فقد وظيفته لأن الشركة أفلست بعد فضيحة احتيال محاسبية، وهنا تسأله إليزابث السؤال الذي لم يجبه أبداً: (ألم تكن تعلم عن الاحتيال الذي دار في الشركة وأنت نائب رئيسها؟!).
يظل السؤال عالقاً لننتقل إلى (ريتشارد فيوز) صديق العائلة، وفيوز هو رجل يملك مؤسسة طبية ويحتال على الشركات الأخرى بتقديم براءات اختراع ليحصل منهم على الأموال عند إنتاج أشياء مشابهة، وفي نفس المشهد نعرف أن إليزابث حصلت على منحة رئاسية للدراسة في جامعة ستانفورد، وعند المزاح حول الأمر أن ذلك سيؤهلها لتصبح رئيس الدولة يوماً ما، تقول إنها لا تطمح لذلك، وكل ما تريده أن تصبح مليارديرة، إذن هي فتاة تعرف ما تريد، من عائلة بها الكثير من الأطباء، حولها عدد لا بأس به من المحتالين، مما يعني أن البيئة التي خرجت منها، تدفعها دفعاً كي تسلك ذلك المسار، كل ذلك يُطرح في الدقائق الستة الأولى من زمن الحلقة الأولى، وهو ما يعكس تركيز السيناريو على تقديم بطلة المسلسل بأفضل طريقة تجعلنا نفهم شخصيتها، وما ستقدم على فعله.
يشعر المصابون بـ(متلازمة المحتال)، بأن الإنجازات المهنية التي يحققونها، لا تعود لجدارتهم أو لقدراتهم وأن الآخرين سيكتشفون ذلك إن عاجلاً أو آجلاً، هؤلاء المصابون عادة ما يملكون تقديراً منخفضاً للذات، أو شعوراً مزمناً بالذنب، وهي أشياء نابعة من تربية قاسية تقارنهم بالآخرين، أو تقلل من منجزهم دائماً، خصوصاً لو كانوا أطفالاً لآباء نرجسيين، ولذلك لا يكون من السهل عليهم أن يتقلبوا صفاتهم الإيجابية وشعورهم باستحقاق النجاح على الرغم من اجتهادهم، ولكن ماذا عن المحتال الحقيقي! تلك المفارقة اللاذعة قدمها السيناريو بذكاء عند سؤال إليزابث عن تلك المتلازمة، أثناء تكريمها من جامعة ستانفورد، والحقيقة أن إليزابث قد طورت مهارات متقدمة جداً في الاحتيال، بدءاً من ظهورها الدائم بالملابس السوداء في محاكاة لستيف جوبز، وعند حديثها تقتبس كلمات وأفكار هي في الأساس لمارك زوكربيرج، وتقتني سيارة تسلا لإيلون ماسك، حتى تظهر وكأنها جزء لا يتجزأ من ذلك العالم، إضافة إلى المشروب الأخضر الصحي الملازم لها طوال الوقت، وحتى نبرة الصوت الغليظة المزيفة التي ابتكرتها لتعكس انطباعاً عن شخصية قوية وقائدة، والتي أكد جميع معاصريها القدامى أن صوتها كان صوت فتاة عادية بالماضي، حيث أتقنتها بجدارة واقتدار الممثلة (أماندا سيفريد) التي تلعب دورها في المسلسل، والحقيقة أن جائزتي إيمي والجولدن جلوب كانتا مستحقتين تماماً لواحد من أفضل الأداءات النسائية التي ظهرت على الشاشة مؤخراً.
رد إليزابث على شعورها بمتلازمة الاحتيال، هو أنها شعرت به كامرأة، ولكنها تعلمت أن تتغلب عليه، وتنصح كل النساء بأن يثقن في أنفسهن ولا يتوانين عن تحقيق أحلامهن. والحقيقة أن نجاح إليزابث المزيف وصل حدوداً لا تصدق، حيث التكريم الأكاديمي من الجامعات، وتعيينها عضواً في مجلس زملاء كلية الطب بجامعة هارفارد، وحصولها على دكتوراه فخرية في الآداب الإنسانية من جامعة بيبردين، وتصدرها أغلفة أهم المجلات والبرامج التليفزيونية، إذ اختيرت واحدة من (أكثر 100 شخص مؤثر) في مجلة تايم، وفي مجلة فوربس احتلت المرتبة 73 في قائمة 2015 ضمن (أقوى النساء في العالم)، وظهورها مع الممثل (جاريد ليتو) الذي امتدحها، والرئيس الأمريكي الأسبق (بيل كلينتون) الذي قال أثناء لقائه معها، أنه يجب على الشعب الأمريكي ألا يقلق من المستقبل في وجود عقول نابغة مثل إليزابث هولمز، ووجود وزير الخارجية الأسبق (هنري كيسنجر)، ووزير الدفاع الأسبق (جيمس ماتيس)، ووزير الخارجية الأسبق (جورج شولتز) -الذي قاد المفاوضات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وساهم في إنهاء الحرب الباردة- ضمن مجلس إدارة شركتها، ذلك النجاح الخارق لكل التوقعات والأحلام، قد وضع عقبات وحواجز حديدية أمام أي امرأة صادقة تريد أن تنجز وتترأس شركة ناشئة، فبعد ثبوت تهمة الاحتيال، أصبح الجميع يتشكك من أن تكون رائدة الأعمال القادمة هي نسخة جديدة من إليزابث، وهو ما تحقق بالفعل فإحدى رائدات الأعمال نصحها الكثير بصبغ شعرها كي لا تبدو مثل هولمز، وهو الأمر الذي حذرت منه أستاذتها بالجامعة الدكتورة (فيليس غاردنر)، وهي من أخبرت إليزابث أن فكرة اختراعها غير قابلة للتحقق بهذا الشكل، وهي من حذرت الجميع من كونها محتالة ولكن لم يصدقها أحد، خصوصاً بعد قائمة الأسماء السالف ذكرها، والتي لن يصدق أحد أنها تمكنت من خداعهم جميعاً.
المثير للدهشة أن إليزابث هولمز لم تستسلم بعد الفضيحة المدوية التي لاحقتها، إذ ارتبطت بالثري الذي يصغرها بالعمر (ويليام إيفانز) وريث سلسلة فنادق إيفانز بمنطقة سان دييغو، وأنجبت منه ولداً قبل أسابيع من جلسة النطق بالحكم، وبسرعة حملت بطفل ثان، واُتهمت أن حملها هو إستراتيجية لتأخير بدء فترة سجنها! ولكن ذلك يتماشى تماماً مع تبلدها الإنساني تجاه حادثة انتحار أستاذها وشريكها في براءات الاختراع (إيان غيبونز) عالم الكيمياء الحيوية، الذي ترأس معملها لسنوات طويلة في محاولة لإنجاز الاختراع الذي بُنيت عليه الشركة، وعندما تم استدعاؤه للشهادة في المحكمة وقع تحت ضغط نفسي شديد، لأنه من جهة قد وقع اتفاقية عدم الكشف لصالح شركة هولمز، وفي نفس الوقت ضميره لا يسمح له بالشهادة الزور، وإزاء ذلك الضغط النفسي والصراع الأخلاقي، لم يجد منفذاً سوى الانتحار هروباً من الموقف، وهو ما لم يؤثر بأي شكل على إليزابث، واعتبرت وفاته بمثابة انتصار قانوني يدعم موقفها. والحقيقة أن المسلسل يتركك بسؤال عن تلك الفتاة الواعدة التي سيكون لها مستقبل مشرق بحق، وتحولها إلى ذلك الوحش عديم الإنسانية الذي سمح بإعطاء نتائج تحاليل خاطئة للمرضى، في أمراض خطيرة كالإيدز والسرطان، لا شك أنها أثرت بالسلب على صحتهم وحياتهم.

ذو صلة