مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

بریخت.. وريث شكسبير وجوته وشيللر

أحدثت أعمال برتولت بریخت، ثورة عميقة في الفن الدرامي المعاصر، ولم يكن مصادفة، أن يعلن عدد من مخرجي وكتاب المسرح، أنهم يتبعون مذهب بريخت.
قال عنه الناقد رولان بارنیز، وهو يحدد بجدارة الخطوط العريضة: إن بريخت جاء ليقول لنا (الجمهور لا ينبغي أن يلتزم إلا إلى النصف بالعرض، حيث يعرف ما يدور أمامه ويتحمله، وأن الممثل يجب أن يهيئ هذا الوعي بتوصيل دوره، وليس بتجسيده، وإن المشاهد لا يتعين عليه قط أن يرى نفسه في البطل، حتى يظل دائماً حراً في الحكم على القضايا، ثم على علاج ما يكابده.. وأن المسرح لا بُدّ أن يتوقف عن كونه شيئاً سحرياً، لكي يصبح ناقداً).
لقد رحل برتولت بريخت عن عالمنا في العام 1956، ومع هذا فهو حاضر اليوم في هذا العالم، بأكثر مما كان وهو حيّ، فمسرحياته تشغل مكانة مهمة في الأرشيف المسرحي لمئات المسارح في العالم، من طوكيو إلى ميلانو، ومن سان فرانسيسكو إلى موسكو.
وهو في البلدان الناطقة بالألمانية -شرقاً وغرباً- يأتي مباشرة بعد شكسبير وجوته وشيللر، وهذا إذا أخذنا كمعيار لنا عدد المرات التي يقدم فيها، وتبلغ أكثر من ألف مرة في الموسم الواحد.
خميرة فنية فعالة
وهو يعدّ، في البلدان الاشتراكية، خميرة فنية فعالة، ولقد ساهمت أعماله، مؤخراً في الاتحاد السوفيتي، في مقارعة جمالية ضامرة ومتخلفة، وفي إحياء مسرح كان في زمن ماض أحد أهم المسارح في العالم.
لكن برتولت بریخت.. الشاعر والكاتب المسرحي والمخرج وصاحب النظرية المهمة عن المسرح الملحمي، والمكافح الاشتراكي العظيم ضد (البربرية النازية)، وفي سبيل العقل والعدل الاجتماعي والسلام والمودة بين جميع البشر، لايزال حتى الآن موضوعاً للنقاش، وثمة من ينكر عليه أهميته، فأحياناً يغرق بضروب المديح، وأحياناً يهاجم في هجاء مقذع.
وكما يقول الناقد الأمريكي من أصل نمساوي، فردريك أوين، في كتابه (برتولت بریخت: حياته، أعماله، عصره)، إنه لا شك أن بريخت يراقب، مبتسماً ومسروراً، مكانه الذي يقيم فيه الآن بعد وفاته، كل تلك التناقضات التي أطلقها من عقالها، وذلك لأنه كان نصيراً متحمساً للتناقضات، تلك التناقضات التي لم يسع أبداً لإخفائها حين كانت تلوح، سواء في داخله أو في داخل هذا العالم الذي اعتاد أن يخضعه لتحليله الديالكتيكي.
وتدلنا دراسة أكاديمية للباحث الجزائري، أيت قايد محند، نشرتها كلية الآداب والفنون بجامعة وهران، إلى أن كتابات بريخت النقدية، تبقى مصدراً مهماً لفهم تجربته الإبداعية.
ووفقاً لتلك الدراسة: (فإن الجهود الفنيّة لبريخت دفعت بمسار التطور المسرحي، قدماً إلى الأمام، وهي اجتهادات قائمة على أساس تصور جديد يرفض تضييق أفق الإبداع المسرحي.. في ظل حرص دائم على إحداث تأثير خاص في وعي المتلقّي).
أثر كاتبين ألمانيين عظيمين
إن المجد الذي اكتسبته مسرحيات بريخت لا علاقة له بفترة تكوين الكاتب، الذي كان من أكثر البسطاء، وتكشف مسرحياته الأولى (بال - وطبول في الليل - وفي غابة المدن) عن أثر كاتبين ألمانيين عظيمين. عن الأول، وهو (بوخنر)، أخذ بريخت نموذجاً في البناء: فهو يستوحى من مسرحياته، حيث المشاهد القصيرة تصور سرداً بسيطاً.. ولكي يجعل الكاتب الشاب الاتصال بالجمهور أكثر سهولة، فإنه وضع تدريجاً، لغة لا تنتمي إلا إليه، والتي تمزج صیغ اللغة البروليتارية، مع الصيغ المهجورة وكذلك الشعبية التي استخدمها (لوثر) في ترجمته للتوراة، ومجموع هذه الصيغ تضمه صور شعرية جزئية وغنائية.
وأما الكاتب الثاني فهو (ويد كيند)، الذي يذكر بريخت أنه كان يدخل في مسرحياته بعض الأناشيد، وقد حذا بريخت حذوه في ذلك.
ففي مسرحية بال التي كتبها بريخت عام 1919 ومثلت عام 1923، بطلها الرئيسي مهرج يُغوي النساء، ثم يتخلى عنهنّ بقسوة وبعد أن يقتل صديقه إيكارت في ثورة جنون، إذا بهم يطاردونه، ثم يموت وحيداً في إحدى الغابات.
أما مسرحية طبول في الليل (1922)، فإنها تبدأ بذلك اللحن الغنائي للجندي القتيل، الذي يبعث إلى الحياة بأمر من القيصر ثم يروح يرقص في القرى، مبشراً بالوطنية، والحبكة الحقيقية في هذه المسرحية تدور حول جندي شاب هو (كراجلر) الذي يعود من الأسر بعد الهزيمة، فيكتشف أن خطيبته (آنا) توشك أن تتزوج واحداً من الذين استغلوا الحرب، ورغماً عنه نضال مسلّح بجانب جماعة من الثوّار الماركسيين الذين حاولوا الاستيلاء على الحكم بعد هزيمة الألمان، لكن (آنا) تطلب منه الصفح، وإذ يلمح كراجلر، إمكان حصوله على حياة أسرية برجوازية، يتخلّى عن التزامه السياسي العابر.
وفي المشهد الأخير نراه يطلق طبلاً نحو القمر (الذي يرمز إليه بفانوس صيني) فيسقط الطبل في نهر جاف، فيحطم بذلك وهم الحقيقة الذي كان الجمهور قد غرق فيه، وكأنه يقول لجمهوره: (إن الأمر لم يكن سوى مسرح).
وفي مسرحية في غاية المدن (1923)، يصف بريخت الصراع بين (شلينك) وهو تاجر منحرف المزاج، وبين (جارجا) وهو موظف في مكتبة.
وتدور المسرحية فيما يشبه إحدى مباريات الملاكمة، حيث يتصارع الخصمان بشراسة، لكي يلتقيا أخيراً في تضامن روحي كامل.
بُعد اجتماعي جديد
إن الإعجاب الذي كان بريخت يشعر به نحو (پیس-اتور)، وهو المخرج الذي كان يحمل الجمهور على التأمل ومناقشة المشكلات السياسية، في مسرح تعلیمي بحت، دفعه على أن يضيف على نصوصه الخاصة بعداً اجتماعياً جديداً، وقد فكّر في التوصل إلى ذلك بأن يعطي لمحة سياسية لمسرحياته، وأن يضع نظرية (التباعد) ويأخذه بهذا المفهوم الجديد الذي يحمل الجمهور على عدم الاكتفاء بمجرد المشاهدة، وإنما يشارك في البحث عن حل للمشكلة التي تطرحها المسرحية.
وعلى عكس المسرح التقليدي، حيث يعمل كل شيء على شد حساسية الجمهور، وكما يقول بريخت (على تنويم روح النقد فيه)، فإن الشكل الدرامي الجديد، يتعين أن يعتمد بصفة خاصة على القدرات العقلية للمشاهد، وأن يوقظ فيه الرغبة في العمل الاجتماعي والسياسي، إلا أنه يتعين الاعتقاد أنه بالعمل في هذا الاتجاه، يرمي بريخت إلى نصب (شرك) للمشاهد.. وأن يفرض عليه حلاً عقائدياً.
وابتداءً من العشرينات، درس بريخت النظريات الماركسية والمبادئ الجدلية، التي تقول إن العالم يتقدم ويتطور بفضل العداوات، وقد فهم إن وعي الفرد يتحدد عن طريق المجتمع، وأن التحليل الصحيح لعلاقات الطبقة قد تجعل من الضحية، سيداً لمصيره الخاص.
وعلى ذلك، قرر وضع مسرحه في خدمة هذه الآراء، وأن يوحي عن طريق مسرحياته بموقف عام وسياسي وثوري يهدف إلى تغيير المجتمع، وقد صور بريخت هذه النظريات في مسرحيات مثل: الرجل الذي يقول نعم وتمت الإجراءات، وغيرها.
وعندما عاد إلى برلين عام 1947 (وكان قد غادر ألمانيا عام 1933)، استمر بريخت في تطبيق نظرياته وإلى جانب زوجته الممثلة هيلين فيجل فإنه جند عدداً من الفنانين المحنكين، الذين شكلهم بأسلوبه الجديد في التمثيل.
إلا أن العبقرية العريضة للمخرج، التي أظهرها منذ ذلك الوقت حتى وفاته، لا يجب أن تنسينا أن بريخت كان قبل كل شيء كاتباً عظيماً، وأنه أثرى الأدب المسرحي بأعمال من أبرز ما يكون، والدليل الساطع على ذلك، هو أن مسرحياته لا تزال ملائمة حتی بعد مرور عشرات السنين على كتابتها.

ذو صلة