تكتسب المعارف مشروعيتها عبر ترسيخها لنفسها كمعرفة تعالت عن الخطأ عبر إثبات أحقيتها مما يعطيها الحصانة من التعرض للتشكيك الذي يرافق الكثير من حالاتها.
ولكننا نعرف أن كثيراً من العلوم بها أخطاء وأنها ليست محصّنة من التعرض للانتقاد وهذا ما يجعل ركائزها معرّضة باستمرار للتفنيد والتعديل، فليست جميع العلوم صحيحة، وبالتالي كيف نجزم بصحة أو خطأ معلومات وبيانات ومحتوى علم ما؟
وإذا كان البعض يرى بعض العلوم صحيحة والبعض الآخر يراها خاطئة فكيف نستدل على الصحة والخطأ؟ وما موضع الرؤية النسبية بين رؤيتين مختلفتين؟
هذا يقودنا إلى إدراكات الإنسان نفسه ويجعلنا نتفحصها لنعرف أياً منها الصح وأياً منها الخطأ؟ وما هي دلائلنا التي اعتمدنا عليها لتبرير ما نقدمه من آراء؟
إن معرفة الإدراكات تعد ركيزة أساسية لنتمتع برجاحة الأحكام ومصداقيتها، إذ إننا كيف سنتجاوز الشك فيها ما دمنا بإدراكنا مشوشين غير قادرين على الفصل بين الإدراك والشعور؟ قبل أن يترسّب الشك لجميع معارفنا ولجميع تجاربنا التي لم تثبت بعد، يجب علينا أن نعرف المقياس الذي يعتمده الشك، حتى نستطيع حينما نتعرض للتشكيك من جهة ما أو حينما نحن أنفسنا نشك في جهة ما، فإن هذه المقاييس التي نمتلكها حول إدراكنا وطرق وصولنا لهذا الإدراك، هذه العوامل جميعاً ستنقذنا من الوقوع في وحل أي شك غير بنّاء.
حينما نبدأ بحثاً ما بالشك فإنه يُعدّنا كمنطلق لمعرفة ما يصلح ولماذا وما لا يصلح ولماذا، فتكون آراؤنا مبنية بناءً سليماً خالياً من الشك لمجرد الشك أو الشك لوضع العراقيل أمام أي بحث جاد ينطلق لإحراز نتائج محددة.
لأن للشك أسباباً مقنعة لنبدأ به ولكننا نرفض أن يشمل الشك كل شيء بلا ضوابط تحده ويتقرر وفقها، وإلا فإن الفوضى ستتسلل إلى بحوثنا ومعارفنا ولن نتمكن من الإبقاء على معرفة واحدة محصنة من نوازع الشك حتى بعد تأكيدها، وهذا فيه تخريب واضح لأي انطلاقة معرفية، إننا نريد أن نعرف شيئاً ما وعبر الشك سنستطيع استبعاد كل من ليس له ارتباط ببحثنا حتى نصل إلى الأساسيات والمكونات للمعرفة التي تحصلنا عليها.
إنما ما وسيلة الوصول لهذه المعرفة وعبر أي إدراكات؟
هل نحن بحاجة للوساطات لنعلم أن لدينا روحاً خاصة بنا؟
علمنا بالروح التي لدينا هو علم مجرد نعرفه ونوقن بوجوده دون حاجة للاستعانة بالوسائط والوسائل الخارجية، فمثلاً حين أشعر بالغضب أو بالحنين فإن هذه المشاعر تنبثق من داخلي ويمتد تأثيرها على إحساسي وبالتالي على هيئتي وتصرفاتي وقد يصل الشعور للآخرين فيعرفون أنك غاضب أو أنك ذو تصرفات غريبة فيسألون: ماذا بك؟ ولكن هذا الشعور في بدايته انطلق من روحك التي تختص بك دون سواك. ففي هذه الحالة فأنت تمتلك معرفة حضورية أي أن العلم حاضر لديك ومجرّد وتستطيع تحويله بالتالي إلى شكل ظاهر عبر إعطائه مظهراً تعبيرياً محدداً يدلل على حقيقة ما تحس وتشعر به، إن العلم الحضوري غير قابل للخطأ والتوهم، لأنه منبثق من مشاعرك الداخلية، والعلم النفسي للقضايا والمفاهيم لا يتطلب حصولها من عوامل خارجية لأن هذا سيؤدي إلى معرفة غير محددة القواعد وغير قابلة للثبات في قوانين وأطر واضحة، مما يضع جميع محاولات البحث والرصد والتوثيق للعلوم موضع شك وإضاعة للوقت لا طائل وراءها، فنحن على سبيل المثال قد نذهب لشراء ستارة للنافذة فننظر لها في شكلها لنختار أي ستارة سنشتري وهذا خاص بالنفس. أي لا حاجة لعلوم خارجية لقيامنا بهذه الخطوات، فهذه معرفة يقينية قمنا بها بأنفسنا، ولكننا في إطار عملية الشراء فإننا ننتقل إلى العلم الحصولي الذي نحصل عليه عبر المزج بين العلمين وتشاركهما معاً فنعرف مثلاً ملمس القماش وخامة الستارة وسمكها وتناسبها لألوان الغرفة وتناسبها للمكان الذي سنضعها فيه وطريقة تركيبها وثمنها، فهذه العوامل هي حصولية وتحتمل التغيير والتبديل وليست بالثابتة لأنها لا تمس صميم العلم الذي لدينا، فنحن لدينا علم حضوري بالستارة ولو أتى شخص آخر وادعى غير هذا الكلام فإننا لن نصدق مزاعمه، أما لو تحدث الشخص الآخر عن تفاصيل الستارة ومعلومات عن مجمل عملية الشراء فإن كلامه يحتمل الصواب والخطأ، وهذا التجاور بين العلم الحضوري غير الخاضع للآخرين والعلم الحصولي الذي يحتوي على تفاصيل تقل أو تكثر ولكنها خاضعة للنقد والتحليل والمراجعة. وسبب خضوعها للنقد والمراجعة أنها تنطلق كواسطة من الذهن إلى العالم الخارجي وبالتالي هو غير مطابق للواقع العيني، إننا بتأكدنا أن العلم الحضوري بحقيقته وعينه هو متواجد عند المدرَك والمدرِك بلا واسطة فإننا نصل للتأكيد الجازم بعدم إمكانية الخطأ، ومادام العلم نفسه هو عين المعلوم فأي فرصة للخطأ هنا؟
إن إمكانية الخطأ تتلاشى ويصبح بإمكاننا وبمنتهى الثقة أن نؤكد الوحدة للعلم الحضوري التي تجمع العالِم والمعلوم.
إن ثبات الحالة الشعورية المحددة المجردة في ذهننا لا علاقة لها بالحالات الشعورية المختلفة التي تثيرها مواقف وانفعالات أخرى، فمثلاً ربما يشعر شخص ما بالتعب نتيجة إرهاق أصابه فيعتقد أنه مصاب بالألم في أماكن معينة من جسده، أما الحقيقة فهي أنه لا علاقة للأمرين ببعضهما لأن ربط التعب الذي -هو مرتبط بأسباب مختلفة- بالألم الذي هو حالة شعورية ولكن له مسببات لا علاقة لها بالوضع الحالي، هذا الربط في أكثر احتمالاته مثير للشبهة لأن إدراك التعب عبر العلم الحضوري لا يعني أننا سنبلغ ونعرف علته بالعلم الحضوري أيضاً، وهذا بسبب أن العلم الحضوري ذو حضور لا يرتبط بالمفاهيم والربط والتحليلات بل هو موجود مستقل بذاته، و لو أردنا تفسيره فإن الإدراك الحصولي هو المعني بهذا التفسير وهو تفسير غير مؤكد ولا مضمون بصحته لأن مشاعرنا قد تفسر لنا حالة شعورية وتربطها بأسباب متنوعة غير موثوقة وليست هي الأسباب الصحيحة للحالة التي نمر بها وبالتالي تصبح هذه الأسباب عللاً وتفسيرات وقرائن خاطئة لأننا اتجهنا اتجاهاً خاطئاً منذ البداية فكانت النتيجة أننا توصلنا لخلاصات خاطئة، فقد تكون مثلاً هناك امرأة تشعر بحالات متنوعة من الشعور؛ فمرة تدعي التعب، ومرة القلق، ومرة سوء المزاج، ومرة الجوع، ومرة الرغبة بالخروج للتسوّق، وهكذا تعزو حالتها كل مرة إلى سبب مختلف مع أن سببها الرئيس في تصرفاتها قد يكون مثلاً طلاقها وقلقها على مستقبلها وتقدمها في السن، ولكنها بسبب ربطها حالتها الشخصية بمسببات ذهنية أخرى كتفسير لعلتها فقد وقعت في الخطأ، لأن العلم الحضوري يعطينا العلة المجردة ولكنه لا يعطينا عللها وأسبابها، وإنما هذا من خصائص العلم الحصولي، وأما عن توصلنا لصحته أو خطئه عبر العلم الحصولي فهذه مسألة أخرى.
إننا حين ننتقل من حضور العلم لدينا إلى الحصول على علته وتفسيره هنا تتكون عوامل ثانية تسهم إما في دقة وصحة ما نتوصل له أو أنه يكون خاطئاً وهذا يعتمد على جملة من الركائز.
حضور العلم فينا ليس على نفس الدرجة من الوضوح، إذ هناك عوامل تساهم إما بانخفاضه أو ارتفاعه في ذاتنا، إن النفس البشرية بحاجة للرياضة الروحية المستمرة لتتعمق أكثر في إدراكاتها وتتأصل هذه الإدراكات عميقاً فيها، لأنه كما للجسد عوامل تؤدي إلى تعزيزه وتقويته فكذلك النفس بحاجة للتعزيز والتقوية وذلك يتم بالمجاهدات الصبورة الهادفة لتنمية هذه النفس لتصفو من أكدارها وتغدو رؤيتها ناصعة وواضحة. إن قوة النفس قد تقوى وقد تضعف وهذا طبيعي بحسب الحالة النفسية التي نعيشها، فقد يكون هناك مثلاً شخص مديون وقلق في تفكيره بديونه وكيفية سدادها ولكن يزوره مجموعة من أصدقائه فنراه متفاعلاً نشيطاً سعيداً وكأن ذهنه خال تماماً من الهموم، وحينما ينصرف أصدقاؤه ويغدو لوحده فإن القلق السابق الذي اختفى مؤقتاً نراه يعود له من جديد فيغدو غارقاً في التفكير والتوتر لهذه المشكلة التي وقع فيها. في حالة كهذه الحالة وأمثالها كثير جداً فإن قلة انتباهه وعدم التفاته لمشكلته حينما زاره أصدقاؤه كانت هي السبب في اختفاء ذلك القلق الذي يعانيه، وحينما أصبح وحيداً ظهر مجدداً القلق لديه لأنه ما عاد ملتفتاً ولا منشغلاً بأصدقائه بل بات وحيداً مما جعل تركيزه يعود قوياً إلى مسألة الديون. إن الحالة النفسية للإنسان تؤثر في علومه الشعورية وبقدر التفاته لها تصبح واضحة أكثر وبقدر انشغاله عنها تصبح أقل وضوحاً وربما غير موجودة بشكل مؤقت، بحيث ينساها في غمرة انشغاله بأشياء أخرى.
الروح والجسد مترابطان ولكن علينا معرفة حدود هذا الترابط والمهام التي ينفرد بها كل منهما عن الآخر، فحقيقة الروح ليست كحقيقة البدن، إذ هناك اختلافات جوهرية عميقة تتعلق بالنشأة والتكوين والجوهر والصفة والغاية والمسار والقدرات وغيرها من العوامل الكثيرة التي تفصلهم عن بعضهم من ناحية الإمكانيات وتأثيرها، وإن كانت تربطهم معاً في كيان واحد. فقوة الروح ليس معناه قوة الجسد، وقوة الجسد ليس معناه قوة الروح، وبالطبع بإمكان أحدهما أن يؤثر إيجاباً في الآخر وأن يسد نواقصه في حالات معينة، لكنهما يبقيان متمايزين عن بعضهما البعض والخلط بينهما هو أول خطوة نحو الزلل والتعثر المعرفي، والتمييز بينهما يتيح لنا معرفة صفات كل منهما مما يجعلنا واعين لقدراتنا في تطوير هذه الصفات عبر البدء في تنميتها تنمية واعية تضمن لنا أن نحقق الارتقاء لأهدافنا. إن معرفة الذات تُلغي الاشتباه فلا نعود مشتتين في معرفتنا وكيفية الظفر بها وإمكانية تحقيقها.