مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الانبهار بالمعجزات

كل أمة لها شغف يأسرها، فشعوب الهكسوس فتنوا بالهندسة وفنون العمارة، فكانت الأهرامات آية على بديع ما ثَقِفوا، فأعدوها مقابر ملوكهم، وأقبلوا على السحر ينهلون من عجائب علومه، فناسب أن يتحدى بقاياهم موسى -عليه السلام- بما ألفوه، فكانت الحية العظيمة التي التقمت ما أفكوه، وبز الإغريق غيرهم بالتفلسف والحِكَم، وفنون الطب وتلقفها عنهم أحفادهم والشعوب التي بُعث فيها عيسى -عليه السلام- فتحداهم، ونطقت الأناجيل بالحِكَم البالغة، وكان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وشُغِفَ العربُ بالتعبير الجيد، والبيان المُفحم، والخيال الآسر، والصور الجمالية، لذلك ناسب أن يتحداهم محمد -عليه الصلاة والسلام- بالقرآن، فكان يعمل عمله في نفوس الجاهليين، فيرجع الرجل إلى قومه بوجه غير الذي خرج به معلناً الإفلاس، فكان انبهاراً ذوقياً أولياً، تلاه الانبهار الفني في عصر بني العباس على يد الجاحظ والجرجاني، تلاه الانبهار العلمي على يد علماء الإعجاز العلمي في العصر الحديث، القرآن يتكرر إعجازه، ولا يتوقف أبداً، وهناك ألوان من التحدي والمعجزات لم تظهر بعد. إن المتتبع لتاريخ النبوات يلحظ أن رسالة كل نبي وكتابه لا تتجاوز حقبته وأوانه، بينما معجزة العرب باقية ومحدثة، فالباب مفتوح لمن ملك البصيرة والعِدَّة اللازمة. إن القرآن ليس لتحدي حفنة من أعاريب الجزيرة، بل هو أعم من ذلك، وليس مؤقتاً بل دائماً، إنه يُبَلِّغ رسالة ممتدة لنهاية التاريخ، وهو صالح لإبهار الأمم القادمة في كل مكان، بأنواع من المعارف لا نعرفها الآن، أو بعضنا يعرف بعضها، فالفتوح دائمة، إنه متسام ومستمر، ويعلو الجميع، فصلٌ، عزيزٌ، الباب مفتوح إن لم تغلقه بدعاويك العريضة، أو أزمة عصرك الخاصة، أو محدوديتك.
معجزات الرسل مناسبة لأقوامهم فأتباع موسى ليس من شأنهم التبليغ، لذلك معجزة العصا واليد ليست وسيلة لنشر المعتقد، كما هو الحال مع القرآن، كذلك إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص مع عيسى -عليه السلام- ليس رسالة تحتوي مضموناً عقدياً، أو منظومة تشريعية، بينما رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- مستمرة، دائمة، فناسب كذلك أن ينزل عليه القرآن المحدث المتجدد، الذي لا تنقضي عجائبه، إلا في الأذهان المغلقة، والأرواح الصغيرة، والقلوب الضعيفة، والتي تُصعق، هذا الصعق الذي لم يكن معروفاً عند الصحابة مع أنهم أولى به في نظرنا القاصر، فعروبتهم أتم، وفهمهم أثقب، وقلوبهم أخشى، ومع ذلك كثر فيمن تبعهم الغشي، لماذا؟ لقوة الوارد وضعف المحل، بينما حال الصحابة مختلف، فالوارد قوي والقلوب قوية، لذلك تعاملوا مع القرآن كما ينبغي حيث لا يتمون العشر آيات حتى يتفاعلوا معها علماً وعملاً وحالاً، مما يصرف هذا الأثر التصريف المطلوب، فكانوا أناجيل تمشي على الأرض، وكان خُلُق صاحبهم القرآن، بينما بعضنا اليوم لا يصعق ولا يتفاعل وإنما يهذ هذاً. القرآن ليس كتاب قوانين، القرآن ليس وثيقة تاريخ، القرآن ليس نصاً عاطفياً، القرآن كلام حي يداخل مسامات التفكير، ويسمو بالروح، وتنعجن به النفس، ويتفاعل معه الشعور، ويضبط البوصلة، ويلهم الكيان، فيتفجر بالنضج والحياة والعبقرية، القرآن ليس سوطاً بل سراجاً ينير الأكوان.
إن لكل أمة مزاجاً وتركيباً نفسياً مناسباً لرسالتها، فما الذي أبعد بنا عن روح التجدد، والاستضاءة بالنور كما ينبغي، وبث روح الحياة فيما ننتج من حضارة، كيف توقفت الحضارة؟ حضارتنا لا تتوقف! هناك علل خفية وظاهرة، ليس هذا موضع بحثها، إن أثر القرآن باقٍ، وهو لازمٌ لنشر الرسالة وتفعيلها في جميع الأمم، لم نكن منغلقين، بل منفتحين على جميع الحضارات، سرنا فيها شرقاً وغرباً واختلطنا بهم، ولبسنا ما يلبسون، وأكلنا ما يأكلون، ولم نكن خائفين على هويتنا من الدروس، فثقتنا بالرسالة عالية، ولم يُعرف عن مجتمع أنه انغلق انغلاقاً شديداً إلا انفتح انفتاحاً شديداً، والقرآن الذي نحمله مبهرٌ ولا يزال، ويتجدد فيضه لمن أراد، وهو مشعل نور نحمله لنضيء العالم، يأمرنا بالسير في الأرض، وحوار الناس، وتبادل المنافع والقيم الإنسانية الرفيعة، واستلهام ما في كتب الناس مما لا يعارضه، والاشتراك في كل ما من شأنه الرقي بالعالم، إن الاحتباس الحضاري دليل الخوف والمحاذير، إن خبرة أهل الرسالة عريضة بسبب تعرضهم للاحتكاك بكافة الأمم، ومن الطبيعي أن يجرب أهل الرسالة الاختلاط بالأمم فكتابهم يحددوهم لفتح الفضاء الثقافي بشقيه المعيشي والهواياتي، هذه الخبرة أعطتهم الثقة والنطق الفصيح، لكن ما لبثت دورة التاريخ تستكمل مجراها حتى دخل الشرق في موجة من الانكماش الذي يؤدي دوره في التردي التدريجي للاضمحلال ظاهرياً، لكن هذا لن يكون، لأن القرآن باقٍ، ولأنه ما زال يؤدي دوره في الإبهار، فلا نهاية لإعجاز هذا الكتاب، وهو إعجاز ذاتي، إن المانع من الإتيان بمثله ليس حاجزاً أُقيم في صدور العرب كي يعجزوا عن الإتيان بمثله، بل هو في نفسه معجز للعالمين، فإن كان الإنسان يقف منهوباً أمام هذه العظمة، لكنه ليس مسلوباً عن معارضتها، بل لا يستطيع، لأن المانع من أصل هذا الكتاب، فالقوى متوافرة، والقرائح سَيَّالة، ولكن القرآن في نفسه معجز، ولو كان هناك مانع داخلي لدى العرب لمعارضة القرآن لكان هذا المانع هو المعجز، ولكن نظم القرآن خارق لما اعتاده البشر.

ذو صلة