مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

تشيخوف يزور عسير متخفياً

سبعة أيام أو ثمانية، لن تجعل منك كاتباً ولن تُنجز لك كِتاباً، ولكنها ستوقظ المارد الذي نام كثيراً في داخلك، هكذا تفعل معتزلات الكتابة.
قلت هذه الكلمات أثناء خوضي تجربةَ (معتَزلات الكتابة) بمنطقة خميس مشيط، بدعوة كريمة تلقيتها من وزارة الثقافة السعودية، متمثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة، للمشاركة في هذا المعتزل، والذي تقوم فكرته بشكل عام على التقاء عدد من الكُتّاب من جنسيات مختلفة، لا يتجاوزون العشرة في مكان واحد برفقة مرشد أدبي مرموق، يتناقشون ويتفاكرون حول جنس أدبي معين، كُلٌّ بحسب منظوره الخاص وتجربته الأصيلة، حيث تقوم الوزارة بتوفير سُبل الراحة الأساسية، سكناً وإعاشةً وترحيلاً، لكيلا ينصرفوا عن الاشتغال على مشاريعهم الكتابية، حتى الاحتياجات الصغيرة كذلك. إضافة إلى ترتيب زيارات نوعية لمناطق تحمل بُعداً سياحياً وأثرياً وتاريخياً. المعتزل الذي أقيم في المنطقة الجنوبية بعسير، وتحديداً في مدينة خميس مشيط، كان فرصة لمقابلة طيف واسع من الأدباء وكتاب القصة القصيرة، فكنت عثمان الشيخ من السودان، وإبراهيم عادل من مصر، ومحمد عبيدة فرحات من سوريا، وسوار الصبيحي من الأردن، وعبدالله العوفي من السعودية، وبدور المالكي من السعودية، رفقة أستاذنا ومعلمنا عبدالله الوصالي بكل تاريخه الأدبي الفخم، الممتد عبر ربع قرن من الزمان.
وعلى مدى ثمانية أيام، كُنا نجتمع يومياً في قاعة الاجتماعات الصغرى، قبل وبعد الوجبات، ومتى ما أتيحت لنا اللقيا، نتحدّث في كل شيء يخص مشاريعنا الإبداعية، عن الكتابة والقراءة والفن، عن القصة القصيرة والرواية والشعر، نتبادل الآراء عن مدى أهمية العزلة أو الانغماس في المجتمع أو كيفية الجمع بينهما، نعقد مقارنات ومقاربات بين القصة القصيرة والمسرح والسينما، ونتحدّث عن الأنثروبولوجيا داخل القصة القصيرة، وأهمية المكان في السرد، وعن أنواع الرواة وصوت السارد والضمائر داخل بِنية القصة القصيرة، عن تشيخوف وماركيز وعبده خال.
تبادلنا أفراحنا وبدّدنا أحزاننا على سفح (عَقبة السُّودة) ونحن مندهشون من تعرّجاتها المخيفة وانحداراتها المذهلة، وعظمة الطبيعة الأم. تلبّستنا روح الأجداد، وشملتنا عباءة التاريخ وحكايا القدماء، وأبو تركي مرشدنا في رحلتنا إلى (رجال ألمع) يحكي لنا عن تاريخ المكان قبل مئات السنين، عن صمود المباني في وجه الظروف القاسية وعبقرية القدماء في خلق طابع معماري مميز، وأبنية وحصون ذات أدوار متعددة تصل إلى ستة. ولم نفق من دهشتنا هذه إلا عندما ذهبنا إلى (كوخ العسل) لندخل إلى عوالم أخرى أقرب للسحر، فأن تجد كل هذا العدد الهائل من أنواع العسل في مكان واحد، وتسمع لأشخاص لديهم القدرة على تحديد نوعه ونوع الزهرة المُنتج منها والاستخدامات الممكنة له. لنختم جولتنا البديعة بالمرور على (طبب التاريخية)، حيث (قصور وقلاع آل أبو نقطة المَتحمي) استمعنا فيها إلى شرح وافٍ وعظيم من أهل المكان عن تاريخه، طُفنا عليه رُكناً ركناً للحد الذي جعلنا نشعر بإلفة بالغة نحوه؛ فالجدران هنا ليست مجرد صخور وطين، بل هي كتاب مفتوح تمتلئ صفحاته بالنضال والمقاومة، لم ننتبه إلى ذلك إلا عندما أشار أحد سَدنة المكان والعارفين به، إلى آثار حرق موجود في أحد الأعمدة يعود إلى هجمة شرسة قديمة صمد فيها المكان.
دائماً ما أقول إننا ككتاب وسارِدين، ومهما بلغت قوة ودهشة ما نبتدع فإن الواقع أشد وأكثر إدهاشاً من مُخيلاتنا المحدودة، فهذه الزيارات الثلاث ورغم أنها كانت متتابعة وفي أمسية واحدة إلا أنها شحذت أذهاننا وقَدحت ذواكرنا بعدد غير محدود من الأفكار والقصص والحكايات، عن رجالٍ عاشوا هنا ونساء صنعن أجيالاً وحوائط صامتة، لو نطقتْ لعرفنا عجائب غابت عنا، ولامتلأنا بدهشة ما كنا لنصلها لو قرأنا مئات الكتب.
عدنا من براح الحياة إلى ضيق غُرفنا وأسرّتنا، إلى نصوصنا المبتورة على أمل اكتمالها، إلى مُذكراتنا الخاصة التي نكتب فيها كل شيء، إلى الاختلاء بأنفسنا بعيداً عن صخب الحياة وضوضاء السيارات، وهي تكحت سطح الإسفلت. ومن عجبي أن هذه العزلة تجعلك حقاً تعود إلى مشروعك الكتابي، فتبدأ في مناقشة أفكارك مع زملائك في المعتزل، أو تطرحها مباشرة إلى مرشدك الأدبي أو تُسرّبها في أحاديثكم العفوية، جعلتني أعود إلى تشيخوف مجدداً، معلمي الأول ورفيقي الذي متى طلبته وجدته حاضراً، أقرأ نصوصه واستمتع بتلاعبه العجيب بقارئيه، وأستلذ بسخريته العالية من الإنسان.
بعد عام ونصف من انغماسي في سوق العمل، والتفاعل مع طاحونة الدوام التي لا تتوقف، عُدت من جبال عسير محملاً بالرؤى والأفكار والشخوص والحكايات. عدت مبتهجاً إلى تدويناتي القديمة التي غطى عليها غبار النسيان، وإلى مسودّة لرواية مهملة في ملف صغير لا أدري كيف نجت من مجزرة مسحٍ للملفات قمت بها قبل فترة، وإلى مشروع حكايات عن شخصيات محددة بدأته بتدوينات على صفحتي الشخصية بفيسبوك كنت قد تركته كسَلاً.
لقد عدت من هناك إلى الكتابة والقراءة والحياة، إلى العوالم التي أنقذتني من الاكتئاب والجنون والموت، إلى الأشياء التي يتذكرني بها الناس عند غيابي، فعلى الأرجح لن يتذكّر الناس إنجازاتك المهنية مهما بدت عظيمة ولكنهم سيتداولون نصوصك وإن كانت رديئة.

ذو صلة