مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

لكي يكون الحب أماناً

تؤثر علاقتنا بأنفسنا على قدرتنا على بناء علاقة صحية مع الآخرين ومع شريك الحياة بشكل خاص. العلاقة القلقة مع النفس قد تجعل المرء غير قادر على التعامل المتوازن مع أشخاص يهبونه التقدير والحب بانتظام وسعة وبلا ارتباك، إذ إن تركيزه في التعامل مع الآخرين هو صورة لتعامله مع نفسه، لوم دائم، وتضخيم للعيوب الذاتية في مقابل التسامح مع عيوب الآخرين، فنجده يعد الثناء مجاملة تحتاج إلى توثّق، ويحاسب نفسه محاسبة مفرطة على أسلوبه في التواصل، ويجعل نفسه في حال اتهام مستمر، لأنه لم يختبر في حياته ومنذ طفولته تحديداً إلا علاقات يسودها الجفاء، والمساومة في الحب في خلط بين الحزم في التربية وبين الحرمان من الأمان العاطفي كحق أصيل لا يهدده أي جنوح من الطفل.
إدارة الوجدان
يعتمد نجاح العلاقة بالشريك على إدارتنا الجيدة لعلاقتنا بأنفسنا، وذلك يبدأ بتعرّفنا على أنفسنا، من أين تأتي تصرفاتنا غير المتزنة، الحفر في أعماق دواخلنا له آلياته، التي فصّلتها منهجياً كتب المساعدة الذاتية.
يتحدّث علماء النفس عن الكتابة اليومية كطريقة نافعة غالباً في عقد صلح مستقر، وتعايش منسجم بين العقل والعاطفة المرتبطة بتراثنا النفسي الخاص.
دوّن ما تود أن تكون عليه من حيث علاقتك بنفسك، دوّن تفاصيل تجد أنك تحتاج إلى أن تعامل نفسك بها، تخيّل دائماً أفضل صديق لنفسك وتفاصيل معاملتك له، ثم اجعل هذه التفاصيل أساسية في تعاملك مع نفسك، وصياغة حدودها، اكتب ذلك يومياً، لتصوغ طريقة تفكيرك من جديد. وتدرّب على رؤية نفسك من خلال عيون أصدقائك المقربين الذين يقدرونك، واكتب ما يقدرونه فيك من صفات.
ناقش أفكارك السلبية عن نفسك ونظرة الآخرين لك، ناقشها مع نفسك كتابة، أولاً بأول كلما اجتاحك الضيق لشعورك بعدم التقدير بسبب موقف ما، لا بد أن يكون قلمك ودفترك حاضراً أو مفكرة الجوال وإن كانت الكتابة بالقلم أكثر فعالية في دمج الأفكار. طريقة مناقشة أنفسنا فصّلها كتاب: (الشعور الجيد). مع التدريب على تحديد المشاعر ومناقشتها، نتعلم التفريق بين الاتصال مع مشاعرنا، وبين الانزلاق داخلها والاشتباك معها.
تساعدنا الكتابة على اكتشاف الطريق إلى النقطة العمياء بداخلنا، فإذا عرفنا مصدر الفجوة التي نكرر السقوط فيها رغم تحذيرات العقل لنا، فإننا حينها نستطيع تحديد خارطة الطريق نحو اتزاننا النفسي.
ممارسة التدوين بشكل مستمر يحصل به التدريب على خلق منظور متوازن للنفس، ويأتي الاحتفاء بالتفاصيل لينهض بالروح، ويهذبها.
فخ الحميمية العمياء
العلاقة السويّة يتبادل فيها الشريكان طلب الدعم والمساندة حال الاحتياج إليها.
إن الإدارة الجيدة للنفس، تجعل المرء قادراً على أن يُحسن اختيار من يتوجه إليه لطلب المساعدة، ويكون كذلك حكيماً في طريقة طلبها.
ومما يحفظ توازن علاقة المرء بنفسه الحكمة في إدارة البوح، والتفريق بوضوح بين الاتصال الوجداني المتزن وبين الاتكال أو فخ الحميميّة العمياء.
من المهم أن تقارن حقيقة ما تعيشه مع الشريك والصورة الذهنية التي تتبنّاها عن العلاقة والتي شكّلها كلام الشريك عن نفسه وعن العلاقة، أو حسن ظنك غير المستبصر، أو صورة الشريك عند الآخرين.
العلاقات الآمنة قوامها التعلّم المستمر، يتعلّم الإنسان عن نفسه وعن العلاقة وعن شريكه ما يحمي العلاقة من غوائل الركون إلى التصورات المتوهمة.
ضبابية المفاهيم
لعل من أكثر الأسباب غموضاً في مسألة فقد الأمان في العلاقة بين الشريكين هو ضبابية مفاهيم مهمة، فيختلط الصبر الجميل بإذلال النفس وتحميلها فوق ما تطيق، ويختلط التفهم بإنكار الأذى الناتج عن عدم الاحترام، مفهوم الاحترام نفسه قد يكون مشوّشاً عندما يمارس الشريك الابتزاز العاطفي عن عمد أو عن جهل. في كتاب: (الحب المهدد) ضبط جيد للمفاهيم، ومنها مفهوم الاحترام: (اعتاد أن يظهر لك أنك لست من أولوياته، ولا يحترم تحدياتك والأمور غير المتزنة التي ترتبط بالضعف البشري الخاص بكل واحد منّا بحسب طبيعته، فلا يتصرّف معك كشريك ملتزم وداعم ومهتم).
وهنا أمر مهم، وهو أن الرحلة التي يقطعها الإنسان في التعرّف على نفسه وحدودها تقوده إلى صياغة المفاهيم الخاصة به، فالأمر فيه قدر من الذاتية لا يصح إهماله.
لكي يكون الحب أماناً فلا بد أن يتعرف كل شريك على رؤية شريكه الخاصة التي تصوغها طبيعته النفسية، وبيئته التي نشأ فيها، وقناعاته الفكرية. وأن يتعلّم الشريكان كيف يجددان التعرّف على بعضهما بتجدد الأيام، والأحوال.
الحب مهما بدا لنا قويّاً فإنه لا يعدو أن يكون نبتة صغيرة تحتاج إلى رعاية دائمة. نحن لا (نبالغ في تقدير الحب) -كما عنونت بريجيت جيرو لمجموعتها القصصية الذكية- لكننا نخفق أحياناً في رعايته فيذبل، ويفارقه اخضراره.

ذو صلة