مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

عندما كنتم تشربون الشاي!

في معرض الرياض للكتاب انتبذت مكاناً قريباً أتأمل ملامحه، مرّ من أمامي يمشي وئيداً كما تمشي السنوات المثقلة بالحضارة، في خطواتِ سمْتِ أسفار التراث الفاخرة، كان وقاره، وتجاعيد وجهه، والمعلومات المتدفقة من أحاديثه المتنوعة، والدرر الأدبية التي يتحف به سامعيه، والنوادر العلمية التي يشنّف بها آذان المصغين إليه؛ تؤكّد أنه صندوق أودعه التاريخُ كنوزه، فأودع هو بسخائه العلمي هذه الكنوز العلمية فيما يربو على أربع مئة كتاب!
أعود فأنظر إليه مرة بعد مرة فينقلب إليّ البصر مبهوراً، وتقفز في ذهني صورة الأصمعي، وأبو عبيدة، وابن الأعرابي، والجاحظ، والمبرّد، والقالي، وابن بطوطة... وسلسلة طويلة من أسماء أولئك العلماء والأدباء الموسوعيين.
لم أدع لدهشتي أي فرصة لتخفّ، بل فاجأتها بمزيد من الإدهاش وسألت: متى ألّف الرحالة محمد العبودي هذا العدد الهائل من الكتب وهو الموكّل بفضاء الله يذرعه؟!
بقيت الدهشة معلّقة بهذا السؤال إلى أن قرأتُ لقاءً أُجري مع العبودي، سُئل فيه:
 كيف استطعت التوفيق بين أعمالك والرحلات والتأليف؟
- أنا أكتب في الوقت الذي يستريح فيه الناس، سافرت إلى أفريقيا ومعي اثنان، وكان البرنامج يبدأ من صلاة الفجر ولا ينتهي إلا مع غروب الشمس، فإذا عدنا إلى الفندق منهكين قال أحدهما: لنجلس ونستريح ونشرب الشاي. أما أنا فأتوجه إلى غرفتي وأكتب يومياتي، وفي نهاية الرحلة لمح أحدهما معي ثلاثة دفاتر ملأى بالكتابة، فسألني: هذه متى كتبتها؟! فأجبته: وأنتم تشربون الشاي.
حين قرأت هذا الجواب تأملت مليّاً عبارته: (عندما كنتم تشربون الشاي)، فبدا لي أنه لا يقصد بها وقت شرب الشاي قدر ما يعني أن الرغبة في الدعة وإيثار الراحة لا تصنع مجداً، ولا تبني تاريخاً، ولا تحقق تقدّماً، ولا تخلّد اسماً، لأن شرب الشاي غالباً مرتبط بالتخفّف من الأعمال والتفرغ للأحاديث العادية، وبخاصةً أن العبودي نصّ على أنهم عادوا منهكين، وأن صاحبيه طلبا أن يستريحوا، فقد كان في وسع العبودي أن يقول: (كنت أكتبها قبل أن أنام، أو كنت أكتبها بعد أن نعود من أعمالنا).
ومع أن بعض مؤلفات العبودي قد دوّنها ورقم مسوّداتها بعد عودته من أعماله التي تمتد وقتاً طويلاً، وهذا ما يُشعر بأنها ليست بذلك العمق، فإن المتأمل لكتاباته وكتبه ومعاجمه وخصوصاً الدارسين الأكاديميين لها، يؤكدون عمقها، ولا أدلَّ على ذلك من أن معاجمه سواء اللغوية ومعاجم الأسر، ومعاجم الديار، ومعاجم الأمثال، أصبحت من المراجع المهمة لكل باحث في مجالها، إنْ لم تكن هي أهمّ المراجع.
إنْ هذه الهمّة العالية التي جعلته كما قال الشاعر:
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها        تُنال إلا على جسر من التعب

التي بوّأته أن يحتل مكانته في صدارة المؤلفين العرب، وهي التي جعلت ذاكرة التاريخ وحافظة العلم ومسيرة الأدب تخلّد اسم محمد العبودي دون صاحبيه.

ذو صلة