مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

التسليع والاستهلاك

إن الرياضة ظاهرة عالمية، تشترك في مبادئ وقيم أخلاقية عابرة للثقافات. فهناك مركزية للقيم الرياضية، تحظى بإعجاب وقبول اجتماعي عالمي. غير أنه حدث تحول كبير في الوقت الراهن، حيث امتدت علاقات الإنتاج ومفاهيم التسليع والاستهلاك للرأسمالية في مجال الرياضة، والتي تعد إحدى السمات المميزة للرياضة الحديثة.
فقد، تغيرت النظرة في العقود الثلاثة الأخيرة إلى الرياضة من كونها نشاطاً ترفيهياً وظاهرة اجتماعية لها صفة عالمية إلى اعتبارها صناعة واعدةً ونشاطاً اقتصادياً شعبياً يتجاوز حجم استثماراته العديد من الأنشطة الصناعية الكبرى. وتظهر النسبة الكبرى من تلك الاستثمارات في اللعبة الشعبية الأولى، كرة القدم. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، ترتبط تلك الصناعة برغبة العديد من الشركات في ربط علاماتها التجارية بالأندية الرياضية التي تشارك في المنافسات الرياضية الكبرى، والتي تحقق لها تسويقاً وترويجاً غير محدود. من جانب آخر، تستخدم المنظمات غير الربحية كرة القدم ومشاهيرها لإبراز مشاريعهم أو إضفاء الشرعية عليهم. كما تتهافت العديد من الدول في الوقت الراهن على استضافة الأحداث الرياضية الكبرى، والتي ينظر إليها على أنها ممارسة للدبلوماسية العامة من أجل عرض وتعزيز قوتها الناعمة في النظام الدولي. حيث تستضيف تلك البلدان الأحداث الرياضية المرموقة مثل الألعاب الأولمبية وكأس العالم لكرة القدم.
لا أحد ينكر تصاعد أثر الرياضة في المجتمع المعاصر، ويظهر ذلك في التحول الذي طرأ على بنية الاستثمار الرياضي، فقد كانت الهيئات الدولية المنظمة للرياضة، مثل الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) واللجنة الأولمبية الدولية (IOC) تلجأ إلى وسائل عديدة لإقناع الدول المترددة في استضافة أحداثها الرئيسة (كأس العالم لكرة القدم، والألعاب الأولمبية). أما الآن، ولاسيما في العقود الثلاثة الأخيرة كان هناك حضور بارز ومتزايد للرياضة بين الحكومات من جميع الأشكال السياسية التي ترى فيها وسيلة لتحسين صورة الدولة ومصداقيتها ومكانتها وقدرتها التنافسية الاقتصادية على المسرح الدولي. ولم يتوقف الأمر في هذه المنافسة المحمومة لاستضافة وتنظيم حدث رياضي ضخم بين الدول الآخذة في النمو، ولكن ينسحب الأمر كذلك على الدول المتقدمة، التي لا تجد غضاضة في إنفاق أكثر من 17 مليون جنيه إسترليني أو 20 مليون دولار في محاولة الفوز بحق استضافة حدث رياضي ضخم مثل كأس العالم. إن هذا التنافس الملتهب في استضافة أحداث رياضية كبرى يفسر الرغبة في الاستثمار الرياضي والتربح المالي، فضلاً عن الأثر المجتمعي وتحقيق الشعبية والتواجد المجتمعي والسياسي على خارطة العالم المعاصر. ومن هنا ارتبط التغير الاجتماعي والاقتصادي في مجتمعنا المعاصر بمتغير وفاعل جديد، وهو الاستثمار في المجال الرياضي.
ويعكس مستقبل الاستثمار الرياضي ظهور لاعبين جدد في هذا التنافس مثل الصين (الألعاب الأولمبية 2008)، جنوب أفريقيا (كأس العالم 2010)، الهند (ألعاب الكومنولث 2010)، البرازيل (2014 كأس العالم، دورة الألعاب الأولمبية 2016) وقطر (كأس العالم 2022).
إن المستقبل في ذلك النمط من الاستثمار يتجه نحو حوكمة جديدة للاقتصاد العالمي من خلال مشاركة المنظمات الاقتصادية الدولية، فهناك نظام جديد ليس فقط في الاقتصاد السياسي الدولي، ولكن أيضاً في السياسة الدولية للأحداث الرياضية الكبرى. ومن ثم فالمستقبل يتجه نحو دمج الرياضة في العلاقات الدولية، وهو ما يتجلى في الرغبة السياسية والقدرة الاقتصادية للدول الناشئة لتقديم عطاءات واستضافة الأحداث الرياضية الكبرى ما يعطي بعداً مهماً آخر لسلطتها المتنامية في الشؤون العالمية وتسلط الضوء على تنوع مصادر قوتها، والتي تتجاوز الآن وضعها السوقي الناشئ.
ومن ثم لم تعد الرياضة كممارسة غاية في ذاتها، وإنما أضحت وسيلة لتحقيق غايات متعددة: سياسية واقتصادية واجتماعية...إلخ. فقد أصبحت الرياضة ذات مغزى لأكثر من مجرد الأشخاص الذين لعبوها، والتي تعد فرص تنموية واعدة للمخاطرة من قبل رواد الأعمال لتحويل تلك الألعاب إلى مشاريع مربحة. حيث الاستثمار في التسلية المجتمعية التقليدية، الاستثمار فيما يحبه الناس ويعشقونه. ومن هنا، أصبحت دراسة أوجه الاستثمار الرياضي مجالاً مهماً في أدب السياحة والترفيه. ومن هذا المنطلق، قام الاقتصاديون ومحللو السياسات بتقييم قيمة الفرق الرياضية المحترفة للاقتصادات المحلية والإقليمية. وفي هذا الصدد، نطرح عدداً من السيناريوهات بشأن مستقبل الاستثمار الرياضي على المستوى العالمي:
الأول: الرواج الاقتصادي في الاستثمارات الرياضية كصناعة وسياحة
أظهرت الاستثمارات الرياضية على مدى السنوات الماضية أنها جزء مهم من سوق السياحة العالمية، ووفقاً لنموها الكبير، تعتقد منظمة السياحة العالمية أن السياحة الرياضية هي الآن من الأسواق الناشئة. وتعتبر العديد من البلدان هذه الصناعة هي الصناعة الرئيسة مصدر الدخل، وخلق فرص العمل، ونمو القطاع الخاص، وتطوير البنية التحتية.
ونتوقع في هذا السيناريو أن تنمو السياحة الرياضية بسرعة، حيث أصبحت صناعة ضخمة ومستقلة، لذلك يزداد نموها بشكل كبير كل عام، مع تسجيل أسرع معدل نمو بين مختلف مجالات السياحة، وقد حقق هذا القطاع سنوياً عائدات تبلغ نحو 1571 مليار دولار. للسياحة الرياضية ثلاثة أنواع وتتضمن ثلاثة سلوكيات رئيسة: المشاركة (السياحة الرياضية النشطة)، المشاهدة (السياحة الرياضية السلبية أو الأحداث)، وزيارة الأنشطة الرياضية الشعبية ذات الصلة عوامل الجذب مثل زيارة المتاحف الرياضية والملاعب المهمة والشخصيات الرياضية الشهيرة. وتعد السياحة الرياضية من أنواع السياحة المتنامية التي تجذب عدداً كبيراً من السائحين إلى الرياضة والمسابقات والفعاليات، لذا، فإن العديد من البلدان ذات الاستثمارات الضخمة ستستوعب آثار وفوائد هذا النوع من السياحة واستخدامه كمصدر مهم لتحسين اقتصادياتهم.
الثاني: مخاطر الاستثمار في المشاريع الرياضية
تعد الأرباح المكتسبة من الاستثمار الرياضي عوامل مهمة لاستمرار الأنشطة الرياضية. وهي مصدر مهم لتمويل أنشطة تشغيل تلك الأنشطة في المستقبل. أحد اهتمامات الشركات العاملة في ذلك المجال في العالم هو توفير الموارد المالية الداعمة لتلك الأنشطة. ومن ثم، فإن الهدف الرئيس على المستوى الاقتصادي للاستثمار الرياضي هو توفير الربحية، ولا يمكن تحقيق الربح دون تسويق رياضي، إلا أنه قبل أي استثمار، يجب تحديد المخاطر المرتبطة به. الخسارة المحتملة القابلة للقياس من الاستثمار. تعد المخاطر جزءاً لا يتجزأ من أي استثمار وترتبط ارتباطاً وثيقاً بعائد الاستثمار، بطبيعة الحال، فإن تطبيق تحليل آثارها على قطاع الاستثمار يعتمد على فهم عميق لطبيعة المخاطر وتحويلها من مفهوم مجرد إلى أداة حسابية. وفي هذا السيناريو، من المهم الوضع في الاعتبار المخاطر المتوقع مواجهتها عند الاستثمار في المشاريع الرياضية، والتي يمكن أن تؤثر على عوائد الاستثمار الرياضي وتقف عقبة عثرة أمام استدامة الاستثمار في ذلك المجال.
الثالث: الاستدامة في تمويل الاستثمار الرياضي وفرص التمكين
إن مجال الرياضة يحتاج إلى الاستثمار من أجل التمكن من النمو. تشير الأبحاث في هذا المجال إلى أن قضية الاستثمار والمخاطر لها نادراً ما يتم النظر فيها. ترتبط معظم أبحاث تقييم المخاطر بالمشاريع الصناعية والخدمية. وفي ظل هذا السيناريو، فإن مستقبل الاستثمار الرياضي مرهون بالتخطيط الدقيق الذي يركز على الأثر الإيجابي لتلك الاستثمارات ويقلل من الأثر السلبي، ولاسيما عندما يكون ذلك الاستثمار مرهوناً بإنشاءات ضخمة وبنى تحتية للرياضة، ولا يتحقق ذلك عن طريق الصدفة، وإنما عن طريق كفالة فرص الاستدامة في ذلك المجال الواعد من خلال الدعم اللوجيستي والتنظيم الجيد لمختلف عناصر وأبعاد ذلك الاستثمار في ضوء مفاهيم ومنطلقات عولمة الرياضة.

ذو صلة