مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

أقـوى قوة ناعمة

وصف الشاعر روديارد كبلنج كرة القدم في بدايات القرن العشرين، بأنها (متعة غليظة وعنيفة ورخيصة). ولم يعش كبلنج الذي توفي عام 1936 ليرى ماذا فعلت اللعبة في شعوب العالم. كيف أصبحت ظاهرة سياسية واقتصادية وصناعة واستثماراً تنفق فيها مليارات الدولارات، وتحقق عوائد تقدر بمليارات الدولارات أيضاً، فالدوري الإنجليزي على سبيل المثال حقق في موسم 2022/ 2023 إيرادات تجاوزت الخمسة مليارات دولار من حقوق بث المباريات.
وكرة القدم هي أهم وأقوى قوة ناعمة عرفها الإنسان، هي أقوى من الفنون ومن الموسيقى، وتأثيرها سريع، لأن شعبها يقدر بمليارات البشر. فكيف وصل الأمر إلى أن أطفالاً من بولندا وروسيا كانوا يمرحون على شواطئ البحر الأحمر في مدن الغردقة ومرسى علم، وهم يرتدون قميص نادي النصر برقم واسم كريستيانو رونالدو؟ كيف حدث ذلك بتلك السرعة وكيف قفز عدد متابعي الأندية السعودية الكبرى، الهلال والنصر والاتحاد والأهلي في بضعة أشهر بسبب إستراتيجية تعزيز القوة الناعمة لكرة القدم في السعودية؟
وهي إستراتيجية الدولة، التي قامت بخصخصة الأندية الأربعة الكبيرة، في سياق توجه إصلاحي مالي. كما أن اللعبة التي أصبحت صناعة، دفعت الكثير من الدول ومن رجال الأعمال من مختلف الجنسيات إلى الاستثمار في الأندية، ولاسيما الفرق الإنجليزية، التي تمثل أقوى وأجمل صالة عرض لكرة القدم، فقد ارتفع عدد ملاك أندية (البريمير ليج) إلى 13 أو 14 جنسية أجنبية، وصور الملكية مختلفة منها صناديق استثمار عربية كبيرة من الإمارات والسعودية، وتعد الجنسيات الأمريكية هي الأكبر في الملكية، سواء بملكية كاملة لأندية أو شراكات، وهذا يعكس قيمة الكرة الإنجليزية كقوة ناعمة، وهي تتفوق في القرن الحادي والعشرين على القوة الناعمة للسينما الأمريكية في القرن العشرين.
والقوة الناعمة بمفهومها الواسع، تتضمن التأثير المعنوي، وكرة القدم تنمي من صناعة السياحة، وهي لا تقل في أهميتها عن صناعات كبرى مثل السلاح والسيارات والطائرات. وأفضل وسائل التأثير هي تلك غير المباشرة، التي تبتعد عن الخطاب المباشر الذي يبدو ساذجاً في عالم لم يعد ينصت إلى نصيحة (ابتسم عند الهزيمة) لغرز الروح الرياضية!
إن مباريات وبطولات كأس العالم تعد أكبر حفلة عرفتها البشرية. عشاق كرة القدم يجدون أنفسهم في حالة من حالات اللاوعي في بعض الأحيان، يجدون أنفسهم مصابين بنوع من السحر الحي الذي يستمد أنفاس حياته من نجيل الملعب.. هل هذا هو الانتماء أم هو المرض والجنون؟!
الانتماء قيمة بناءة والانتماء عصبية وقوة، وليس تعصباً، وكرة القدم تفجر هذا الانتماء وتظهره، لكنها تكشف أيضاً عن مرض يصيب ملايين المشجعين، في كوكب الأرض وهو جنون الكرة، يسميه الإيطاليون والإسبان (أل تيفو)، ويمكن تشخيص هذا المرض في أن المشجع يرى أن ناديه هو الوطن، وأن ألوان فريقه هي ألوان علم الوطن، يرى المشجع ناديه دولة ومؤسسة وكياناً مستقلاً، وكل مباراة يخوضها فريقه ما هي إلا معركة، يرى فيها المنافس خصماً، وعندما يهاجم هذا الخصم فريقه فإنه يسعى إلى احتلال قطعة أرض من وطنه أو ملعبه.
وقد تحدثت مجلة تايم الأمريكية ذات يوم عن مشجعي كرة القدم فقالت: (تراهم يتدفقون على الملاعب والإستادات في جماعات، وفي مواكب صاخبة، ويتزاحمون ويتضاحكون ويتظاهرون، ويتندرون ويتوعدون بعضهم. تراهم يتدفقون على الملاعب بسيارات مشحونة، وأتوبيسات ضخمة، وقطارات مكدسة، وطائرات خاصة. ويوم المباراة عندهم هو يوم الحمى. هو يوم الكرة ولا شيء غير الكرة. وكل شيء قبل المباراة لا يرونه، لا يمكن أن يروه. كل شيء يصاب بالشلل إلا الملعب فهو وحده يصبح فيلماً من أفلام فيليني مليء بالحياة والحركة والانفعال والضوضاء، مليء بالغضب والحب والعرق والخوف. أما خارج الملعب فيسود الصمت والسكون، فالطيور تكف عن التحليق والورود ترفض أن تنمو، والسيارات تتوقف مثل ضربات القلب والصمت يحتوي كل شيء في الكون).
هذا هو جنون كرة القدم الذي صورته مجلة تايم، هو ظاهرة ممتدة حيثما جرت مباريات في دول وعواصم وملاعب، من ستاد ماراكانا في البرازيل إلى السان سيرو في ميلانو واللوتز في لشبونة، وهامبدن بارك في جلاسجو وكونوكو في كوماسي، واستروينتز في مارديل بلانا. وعشاق كرة القدم هم رجال تشعر أنهم وهبوا حياتهم لناديهم، فهم خلف الفريق في كل مباراة، ولا يسمحون لأنفسهم بالتخلف عن مباراة أبداً داخل الأرض أو خارجها، وهم يتوجهون إلى الملعب بألوان وقمصان الفريق، ويحملون الطبول والدفوف، ويشجعون ويهتفون ويغنون بحماس أثناء اللعب وبصوت كهزيم الرعد، وهو منظم ومنغم ومحفوظ بواسطة قادة وقيادات، ويفعلون ذلك ببهجة ومرح ويظل صوتهم عالياً ومدوياً في كل لحظة، قبل المباراة وأثناء المباراة وبعد المباراة. لا تهم النتيجة، لا يهمهم أن فريقهم هو الفائز أو الخاسر، فالمهم أن يشجعوه وأن يشدوا من أزره دائماً وأبداً بغض النظر عن أن وقت شد الأزر قد مضى وانتهى، وذهب بذهاب المباراة. أو لم يأت بعد لأن المباراة لم تبدأ.
أتذكر دائماً هذا المشهد من مونديال 2002 في كوريا واليابان، إذ كان المشهد غريباً لرجل يقف بجلبابه السنغالي الشهير أمام عدسات المصورين وهو يمسك بديك يرمز للمنتخب الفرنسي من عنقه، مداعباً أو موحياً بأنه (يخنقه) بعد فوز منتخب بلاده الأفريقي على فرنسا حاملة اللقب في افتتاح المونديال، فهذه الابتسامة التي غلف بها السنغالي وجهه في اللحظة التي يتوقف فيها الزمن لجزء من الثانية لتسجله الكاميرا، لم يخف بها ما فعلته وصنعته كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى في الشعوب.
فهي البديل للأحزاب الغائبة في الشارع السياسي، وهي البديل المشروع للحرب عند علماء الاجتماع، حين تصدوا لتفسير ظاهرة كرة القدم. وهذا الصراع هو جوهر اللعبة، وسر جمالها وشعبيتها.
والرياضة بكل أشكالها كانت وظلت ميداناً لصراع الشرق والغرب، هكذا كانت الألعاب الأولمبية، بين أمريكا والاتحاد السوفيتي سابقاً، وهكذا هي الآن بين أمريكا وبين الصين، وهكذا هي من مظاهر القوة الثقافية والحضارية لكل الدول التي تسعى إلى دخول قائمة جدول الميداليات، لم تعد الرياضة لهواً ولغواً ولعباً، ولم تكن كذلك أبداً، كما كان يراها بعض المثقفين. فلا أنسى أن الكاتب الأديب المصري الشهير توفيق الحكيم، قال يوماً في ثمانينات القرن الماضي: (الكرة الآن في الأجوال، ولم تعد في الأقلام). وغيره من الأدباء كانوا يرون أن الأمر مقارنة بين قدم ميسي، ورأس جاليلو.
كل هذا نصف الحقيقة فالنصف الآخر صورة جميلة لرياضة ممتعة فيها كل القيم النبيلة. فكرة القدم لعبة لها فعل السحر. وبينما كان العالم يتذكر ما كتبه الأمريكي صمويل هانتجتون في منتصف الثمانينات عن صدام الحضارات بعد أحداث 11 سبتمبر وتحطم الكبرياء الأمريكي، ها هو نفس العالم يعيش لأسابيع في بعض الأحيان، بكأس العالم، وقد التقت خلاله واتصلت الحضارات ولو قدر لمصور عبقري أن يلتقط صورة كونية يجسد فيها كل المشاهد، وساعده الزمن بالتوقف فسوف تسجل عدسته لحظة يلعب فيها العالم ببهجة واستمتاع.
لقد أحببت كرة القدم، ومن حسن حظي أنها كانت هوايتي وعملي، وهكذا رأيتها وهكذا مازلت أراها. فهي على مدار العمر والسنين تصغر وتصير أكثر شباباً، فكانت في زمن بعيد بطيئة وساذجة، ثم أصبحت سريعة وشرسة. أما نحن فنتغير، والناس من حولها يتغيرون، ويشيخون ويكبرون ويرحلون. فهي اليوم غير ما كانت عليه قبل سنوات، وهي غداً لن تكون مثل ما هي عليه اليوم. وقد نجري خلفها كثيراً وطوال الوقت فلا نطولها. وهي التي علمتنا الحكمة والفلسفة والكفاح، وعدم الاستسلام، وعدم الندم. وعلمتنا كيف نحب ونحن نكره، وعلمتنا أن نحب ما كنا نكره، وألا نكره أبداً ما نحبه فيها. علمتنا كيف نضحك ونحن نبكي. وعلمتنا أن ما نبكيه اليوم سوف نضحك عليه غداً. وأن ساحتها هي الحياة، يوم لك ويوم عليك. يوم انتصار ويوم انكسار.

ذو صلة