التسامح الاجتماعي ينطلق أساساً من التسامح الفردي، إذ أنه لبنة المجتمع ومنه يتكون، وأقصد بذلك التسامح أن يقدم الفرد نية التسامح كأساس للتعامل، ويحمل في قلبه شعور الألفة أثناء تنقلاته وحركته في هذه الحياة ينير زوايا القلب بضوء المحبة، يقدم هذا الشعور فيجعله في مقدم تصرفاته كعنوان بارز ومميز لسلوكه، يستحضره قبل حضور المواقف التي تدعو لذلك، ويغلف سلوكه بالإحساس الفعلي أنه بحاجة للآخرين كعنوان تترجمه كل أفعاله، كالابتسامة مثلاً ومراعاة الآخرين، بحيث يوحي من خلالها لآخرين أو يبعث برسالة تقول: إنه في تكامل معهم لا مستغنياً منفصلاً معادياً لهم، إنه يقبلهم ويرغب في التعايش معهم ويفرح بهم ومعهم، بل ولا يستغني بحال من الأحوال عنهم.
وهذه هي الحقيقة بالفعل، التي تقول: إن الإنسان يأنس في المكان الذي يسكنه الناس ويستوحش بفقدهم وخلو المكان منهم، وهذه الحقيقة الاجتماعية التي لا جدال فيها قد ينساها أو يتناساها البعض، وربما غفل عنها لعدم تجربة الفقد والعزلة، فتجعل قلبه غليظاً نافراً معادياً لغيره، مستحضراً العداوة ومغيباً التسامح، تهيمن عليه نزعة التملك والرغبة في السيطرة والاستحواذ، وتبدو في كل تصرفاته اليومية مع أفراد المجتمع الذي يعيش فيه، سواء في عمله أو في طريقه أو تلاقيه معهم في أماكن المصالح والخدمات وأماكن العبادة؛ وهي المساجد والمصليات والمشاعر.
إذ لا بد للفرد من احتكاك بمن حوله لتلاقي مصالحهم مع بعض في مكان وزمان واحد مشترك وحاجة متشابهة، وهذا التلاقي يولد الخطأ والتقصير وربما هو مدعاة لظهور بعض الاختلافات والخلافات والتعارض وربما مقدمات النزاعات أو على الأقل تهيئ لها المناخ المناسب والبيئة الخصبة التي تتواجد فيها إن لم تكافح بشيء اسمه التسامح، وقد يبغي بعض الناس على بعض وقد يَظلمون ويُظلمون ولكن الخلاف عادة لا يحصل إلا من خلال تهيئة النفس له وتبييت نوايا الرفض والنفور والجفاء لا مع نية التسامح والقبول.
أرأيت إن التقينا في السوق مع أولادنا أو آبائنا أو مع من نألف ونحب؟
ثم تعارضت مصالحنا فإننا لا نصل إلى نزاع ولا عداوة، وذلك لأننا قبل التلاقي نحمل نوايا التوافق والتسامح، ولكننا مع غيرهم قد نصل إلى مرحلة الصراع وهذا دليل على أن نية التسامح في تلك اللحظة غير مستحضرة في النفس ولم تتشربها البتة.
ما أحسن وأحن وأعذب قول الشاعر:
من نال مني أو علقت بذمته
أبرأته لله شــاكر منَّته
أنا لا أعوِّق مؤمناً يوم الجزاء
أنا لا أسوء محمداً في أمته
والله ما طالبت عبداً عنـده
ولئن طلبت رجوت واسع رحمته
ونأتي إلى دوافع التسامح المسبقة والمبيتة التي نأمل فيها دوماً، فنقول إنه لابد أن يكون لها هدف، وإلا صارت عبثاً يمارسه الشخص بلا معنى.
ففي كل الشعوب التي تتعايش مع بعضها يكون الهدف عادة هو التعايش السلمي نفسه، ففي ظلاله الوارفة يهنأ الجميع حتى ولو لم يكن لهم من المقاصد سواه.
ولكن هناك نظرة وهدف أسمى وأبعد وأعلى وأرفع وهو ما قاله الشاعر في الأبيات السابقة، وما وصانا به ديننا من أن أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، فالإحسان إلى الخلق والتسامح والتعايش بروح مرحة طيبة فيها السخاء الروحي والتجاوز عن الزلة والقبول للجميع على علاتهم التي لا يخلو منها بشر ولا يسلم منها أحد يكون منطلقاً من عقيدة صادقة تدعو لهذا التعايش بغية ما هو أكثر نفعاً وأدوم وهو رضا الله سبحانه، وبهذا يكون لتصرفاتنا الطيبة معنى وهدف وهو أبلغ ممن يعمل بهدف قريب دنيوي كما أنه أرسخ في السلوك والطبع والتطبع والحياة وأكثر استمرارية في المجتمعات، إذ أنه لا يتبدل بتبدل المصالح التي من عادتها التغير في المجتمعات. ما أسعد المجتمع عندما يجعل التسامح عنواناً لتعايش أفراده.