مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الشيب في الشعر: غير الشيب في الهمم

عندما قرأت عن دراسة أمريكية حديثة أن كبار السن أكثر سعادة وتفاؤلاً من أبنائهم وأحفادهم, وليست لديهم النظرة السلبية نفسها لدى الأبناء والأحفاد؛ تذكرت الشاعر العربي زهير بن أبي سلمة عندما قال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
              ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
والزائر للصين اليوم يرى من في الثمانين قد أقبلوا على الحياة، لا سأم ولا ملل, بل ضحك ولعب منذ الصباح يمارسون شتى أنواع الرياضة البدنية في الشوارع النظيفة والحدائق الأنيقة.
ونجد في أدبنا العربي أمثلة كثيرة لأدباء وشعراء احترموا المشيب وأعطوه حقه في التقدير والتكريم، فالشيوخ أكبر عقلاً وأعمق فكراً وأكثر خبرة وأطول صبراً. وعبر عن ذلك الشاعر أبو فراس حين قال:
إن المشيب رداء الحلم والأدب
         كما الشباب رداء اللهو واللعب
والشاعر أبو تمام يدافع أمام حبيبته التي راعها أن ترى القتير يعلو رأسه رغم حداثة سنه فيقول لها:
ولا يؤرقك إيماض القتير به
         فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب
أما دعبل الخزاعي فيقرن الشيب بالعلم والحكمة, ويجعل من الشيب صفة محمودة, فيقول:
علم وتحكيم وشيب مفارق
         طمسن ريعان الشباب الرائق
ومن الذين دافعوا عن الشيب أبو العلاء المعري فيقول:
خبريني ماذا كرهت من الشيب
              فلا علم لي بذنب المشيب
أضياء النهار أم وضح اللؤلؤ
             أم كــونه كثغر الحبيب
ويصف ابن دريد الشيب بسقم غير مؤلم فيقول:
هو السقم إلا أنه غير مؤلم
         ولم أر مثل الشيب سقماً بلا ألم
ويقول ابن المعتز:
جاء المشيب فما تعست به
         ومضى الشباب فما بكاي عليه
ويرى شاعر آخر استجلاب ود النساء بالمال فيقول:
وخود دعتني إلى وصلها
         وعصر الشبيبة مني ذهب
فقلت مشيبي لا ينطلي
         فقالت بلى ينطلي بالذهب
ويقول أحد الشعراء:
ولما رأت شيب رأسي بدا
           فقالت عسى غير هذا عسى
فقلت البياض لباس السرور
              وأما السواد لباس الأسى
وأراد أحد الصالحين تغيير لون شيبه إلى اللون الأسود فأبت نفسه فقال:
تقول النفس غير لون هذا
               عساك تسر في زمن يسير
فقلت لها المشيب نذير ربي
              ولست مسوداً وجه النذير
وقال علي بن الجهم:
لا يرعك المشيب يا بنة عبدالله
              فالشيب هيبة ووقــار
إنما تحسن الرياض إذا
          ما ضحكت في خلالها النوار
والشاعر عمر بن أبي ربيعة لا يرحب بالشيب فيقول:
ذهب الشباب وأمسى الموت يخلفه
              لا مرحبا بمحل الشيب إذ نزلا
ويقول أبو العتاهية:
يا خاضب الشيب بالحناء تستره
              سل المليك له ستراً من النار
ويقول الإمام الشافعي:
احفظ لشيبك من عيب يدنسه
         إن البياض كثير الحمل للدنس
وهناك شعراء قابلوا الشيب بالترحاب فيقول الشريف الرضى:
قل لزور الشيب أهلاً إنه
              أخذ الغي وأعطاني الرشد
ويقول أبو فراس الحمداني:
رأيت الشيب لاح فقلت أهلاً
                   وودعت الغواية والشبابا
وما إن شبت من كبر ولكن
                   رأيت من الأحبة ما أشابا
ويقول ابن الرومي:
أصبحت شيخاً له سمت وأبهة
               يدعونني البيض عماً تارة وأبا
وتلك حالة إجلال وتكرمة
                   وددت أني معتاض بها لقبا
ويقول الأخطل:
الناس همهم الحياة ولا أرى
               طول الحياة يزيد غير خبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
              ذخراً يكون كصالح الأعمال
ويقول علقمة بن عبدة متهماً النساء:
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
              فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه
         وشرخ الشباب عندهن عجيب
أما عمرو بن زيد فيقول:
الشيب حلم راجح ورزانة
              فيه وتجربة لمن قد جربا
ويقول ابن عقيل الحنبلي رحمه الله وهو في الثمانين من عمره:
ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي
                ولا ولائي ولا ديني ولا كـــرمي
وإنما اغتاض شعري غير صبغته
              والشيب في الشعر غير الشيب في الهمم
ومن أجمل ما قيل في الشيب:
إذا ما الفتى لم يكسه الشيب عفة
                فما الشيب إلا سبة للأشايب
حقاً، إن السعادة كل السعادة طول العمر في طاعة الله.
ذو صلة