مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الأغنية السياسية الخليجية إشكالية المصطلح والبحث عن هوية

الخليج العربي هو خليج الأغاني، وخليج الامتدادات السياسية، والصراعات الاستعمارية منذ القرن السادس عشر الميلادي، ومع كل هذه التداعيات فإن البعد الإنساني وحركة الرحلات الاجتماعية للقبائل العربية، والصراعات السياسية المختلفة، جعلت من السياسية مفهوماً خاصاً في ضمير الوجدان الشعبي في الخليج العربي.
ذلك المفهوم هو مفهوم القوي والغالب، وهو الذي يملك، وهذا في نظري هو مفهوم السياسة لدى التفكير الشعبي في الخليج منذ عدة قرون. 
ولما نتحدث عن مئتين أو ثلاث مئة سنة مضت من تاريخ الخليج العربي، فإننا نحاول أن نرصد الملامح الثقافية التي شكلت الأغنية السياسية، أو ما يمكن أن نسميه بالأغنية السياسية تجاوزاً، وذلك لعدة أسباب:
- في الخليج العربي أغان ذات أبعاد سياسية، لكنها لم تأخذ مصطلح (الأغنية السياسية)، وذلك لاعتبارات المرحلة التي عاشها الخليجيون في ظروف الفقر وقلة التعليم. 
- مصطلح (الأغنية السياسية) كما هو في بعض الأقطار العربية كمصر، يتحتم على وجود ثنائيتين في الواقعة الاجتماعية، هي السلطة والمعارضة، وتحقيق مفهوم السلطة والمعارضة، والبرلمان السياسي، والانتخابات السياسية كانت متحققة وذلك بسبب الوجود الاستعماري الفرنسي ثم البريطاني على مصر مما جعل الفكر السياسي فكراً واضحاً ومشروعاً قومياً لبناء الدولة، أما في الخليج فلم تتحقق هاتان الثنائيتان وهما: السلطة والمعارضة، بل كانت هناك أكثر من سلطة، وأكثر من معارضة، سواء على مستوى البر حيث الحروب بين القبائل والنزاعات السياسية، أو على مستوى البحر حيث كان الإنجليز وقبلهم البرتغاليون يجوبون الخليج العربي لأطماع الاستعمار الغربي، وكذلك وجود حركات القرصنة في بحار الخليج من قبل قواد وأبطال كانوا ينازعون الإنجليز والعرب السلطة ويغنمون، ويوالون من ينتصر، ولذلك فقد كانت المستويات الشعبية الاجتماعية تعيش ذلك الخوف الناشئ من عدم الاستقرار السياسي في ذلك الوقت، ولذلك فقد كانت الأغاني والمواويل الشعبية تحمل صدى نفسياً وإنسانياً لمعاناة الخليجيين، وهي في أغلبها أغان لم تصرح بفكرة البعد السياسي، لكنها تحمل فكرة الخوف، وترد القلق والفراق لسبب القدر أو الدهر أو العذال، وهي في نظري بهذا المستوى تحقق قناعاً مضمراً للمفهوم السياسي الذي كان سبباً في قلق المجتمعات الخليجية وقتذاك، ولم يكن أحد يستطيع أن يكون صريحاً في أغانيه ضد أحد ما، والسبب أن الأغاني الخليجية هي أغان جماعية أفرزها الوجدان الشعبي العام، وليست أغاني فردية بإمكان صاحبها أن يكون معارضاً في أغنيته أو صاحب موقف ما.
ولكننا بالإمكان أن نرصد عدداً قليلاً من الحالات الاستثنائية التي خرجت عن مفهوم الوجدان الجمعي في الفنون والأغاني، ونذكر بعضاً من الشعراء الذين حملت أشعارهم أبعاداً سياسية، وهذا يدلنا أنه لو تشكلت فيما بعد حالة اسمها (الأغنية السياسية) فإنما بداياتها كانت مع قصائد الشعر العامي الذي اشتهر به قليل من الشعراء، ومن ذلك:
الشاعر محمد بن عبدالله العوني (1858 - 1924م)، وهو من أهالي بريدة، ويعد هذا الشاعر من الشعراء القليلين الذين تبنوا مواقف سياسية في أشعارهم، حيث كان يقول الشعر وهو قريب من أهل السياسة والسلطة في وقته، فقد رافق الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت، ورافق الشيخ سعدون بن باشا بن منصور السعدون أمير المنتفق، وكان على خلاف مع أمراء حائل آل رشيد، ثم وقف معهم، ثم عارضهم، وانتهى به الأمر في كنف الملك عبدالعزيز آل سعود يرحمه الله الذي أحسن للشاعر العوني وجعل له داراً خاصة في الرياض إكراماً له.
وطوال هذه العلاقات السياسية المباشرة مع أولئك الحكام فقد كان يقول الشعر في مناوئيهم، وبسبب تلك الأشعار اشتعلت الحروب وقامت المعارك، ولذلك فهو له مقولة مشهورة: ليست العبرة بالذي يدبر الجيوش ويحارب في الميادين، بل بالرجل الجالس أمام الموقد يصلح قهوته ويشعلها حرباً بين القبائل.
ولم تبق أشعار العوني السياسية مجرد أشعار يتناقلها الرواة مشافهة، بل غُنِّيت بألحان عذبة وأصوات شجية، ومن ذلك قصيدته المشهورة (الخلوج) وفيها تعريض سياسي، حيث غناها الفنان الكبير عبدالله الفضالة (1900 - 1967م) غناءً منفرداً على آلة الكمان، بأداء حزين جداً، ولحن طويل مجرور يجر قلب من يسمعه فيستدعيه للحزن والبكاء. كذلك تعرض الشاعر العوني للسجن بسبب مواقفه السياسية، وقال وهو مسجون قصيدة التوبة المشهورة، التي مطلعها:
يا الله يا والي على كل والي 
يا خير من يدعى لكشف الجليلة
وقد قام الراوية والفنان الأحسائي الكبير فهد بوناصر يرحمه الله بأدائها بطريقة خاصة تختلف عن أداء عبدالله فضالة، وفهد بوناصر كان يؤدي قصيدة العوني بمقام خاص لم أسمع بمثله، لدرجة أني أدعوه بمقام فهد بوناصر، ومن سماته أنه يستدعي الحزن وإطالة المدود في اللفظة، بطريقة جنائزية حزينة عرفت منذ قديم عن أهل الأرياف.
الشاعر حمد بن مبارك العقيلي (1876 - 1957م)، وهو من أهالي الأحساء، وكان شاعراً مشهوراً في وقته، كما أن شعره ضم عدداً من المواقف السياسية ضد الاستعمار الإنجليزي في الخليج، وضد البطش العثماني على الأحسائيين في ذلك الوقت، وهذا الأمر يعد وعياً سياسياً متقدماً، وموقفاً بطولياً وإنسانياً من رجل عربي لم يرض للإنجليز أو العثمانيين أن يستولوا على البلاد العربية في الخليج العربي، ولذلك فقد توعده العثمانيون وطاردوه، ولكنه استطاع الهرب من الأحساء إلى البحرين، ومنها إلى دبي حيث استقر هناك وعاش بقية حياته، ولما قيَّض الله الأمر للملك عبدالعزيز آل سعود كان العقيلي من أوائل من استبشروا وكتبوا قصائد الشعر من أجل تحرير الأحساء من العثمانيين على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله.
وعلى الرغم من وجود البعد السياسي والقومي العروبي في شعر حمد العقيلي، إلا أنني لا أعلم أن أحداً تغنى بهذه الأشعار السياسية، ولكن الذي اشتهر من قصائده ماغنَّاه له الفنان الكبير عبدالله الفرج المتوفى عام 1900م، حيث غنى له صوتاً مشهوراً عرف بصوت الحية، وهو صوت: (وبروحي من الغيد هيفا كالهلال، حسنها شل روحي وعقلي)، وكان الفرج في أيامه الأخيرة والعقيلي في أول شبابه عندما غنى له هذا الصوت. كما غنى له الفنان الكبير محمد بن فارس صوت: (دمعي جرى في الخدود).
الشاعر اليماني (....)، وهذا الشاعر اليماني كتب قصيدة يصف فيها معاناته في سجن العبيد في الأحساء، وسجن العبيد هذا هو سجن سياسي في زمن العثمانيين، وتمت إزالته نهائياً من قبل الحكومة السعودية عام 1975م، وكان العثمانيون يسجنون فيه الخارجين عن القانون والمعارضين لسياستهم، وهذا اليماني مجهول الاسم والتاريخ، وعثرت على قصيدته أثناء البحث في أسطوانات الفن الأحسائي القديم، حيث غنى له الراوية والفنان أحمد الدعي (1345 - 1416هـ) أغنية السجن، ومن ألفاظها تدل على أن الرجل كان في العهد العثماني حيث المصطلحات العسكرية العثمانية واضحة في القصيدة مثل: الشاوش، النبطشي، العريف. يقول منها:
اليماني قال حياتي ما تفيد
سهران طول الليل وعيني ما تنام
يا من لقلب طاح في قصر العبيد
لطال يومه والمسا بوسط الظلام
لضواه الليل صكوا به حديد
والعدد عند النبطشتي بالدوام
وبتتبع هذه الملامح لبدايات الخطاب السياسي في الأغاني القديمة، يمكن لنا أن نتساءل: هل أفرزت هذه البدايات خطاباً مستقلاً هو (الأغنية السياسية)؟ أم انحرف مسارها لتكون أغنية وطنية بامتياز؟ 

ذو صلة