ولئن كانت المدينة المنورة هي المركز الأول للحجاج، فإن مراكز جديدة نشأت، لاحقاً، ومن هذه المراكز دمشق والكوفة وبغداد والفسطاط ثم القاهرة وتونس وفاس ثم تعز وصنعاء لتجمّع الحجيج وانطلاق قوافلهم التي تشكلت سنوياً في تلك المراكز في طريقها لأداء فريضة الحج.
ولاشك أن دمشق شكلت أحدى أبرز المحطات في تاريخ الحج، ولعبت قافلة الحج الشامي دوراً كبيراً في تنظيم أفواج الحجاج، وكانت لها أهمية كبيرة لدى الدولة العثمانية، وزاد في أهمية هذه القافلة، آنذاك، كونها واحدة من قافلتين رئيستين سمحت بهما وتبنتهما ونظمتهما الدولة العثمانية في العالم الإسلامي، أما القافلة الثانية فهي قافلة الحج المصري.
ويشير منير الكيال في كتابه (محمل الحج الشامي) إلى أن القافلة الشامية شملت أعداداً كبيرة من الحجاج كانوا يفدون إلى دمشق في موسم الحج من المناطق الشمالية والشرقية من داخل الدولة العثمانية وخارجها. وعرف أولئك الحجاج بحسب المناطق التي كانوا يفدون منها، وكان منهم جماعات الروم والحلبيين والعجم، فضلاً عن حجاج دمشق, وقد التحق بكل طائفة من هؤلاء جماعات أخرى من خارج الحدود.
وكان من الحجاج من يصل إلى دمشق قبل انطلاق القافلة بأربعة أشهر أو خمسة أشهر، ولكن الأغلبية منهم كانت تصل في شهر رمضان ومنهم من كان ينزل في خان الحرمين القريب من باب البريد بدمشق أو بالقرب من جامع الورد في حي سوق ساروجة. أما الحجاج الأعاجم فكان من عادتهم النزول في حي الخراب والسويقة قريباً من مقابر آل البيت. وكان من الحجاج الوافدين إلى دمشق من ينزل منهم في زوايا تحمل اسمهم مثل زاوية (المغاربة) وزاوية (الهنود) بمحلة السويقة، وزاوية (السنود) وزاوية (الموصليين) بمحلة ميدان الحصى بحي الميدان.
وكان عدد حجاج القافلة يتفاوت من سنة إلى سنة أخرى، ويقدر متوسط عدد حجاج القافلة في ذلك الحين بين 20 و40 ألف حاج, وكان هذا العدد يرتفع أو يهبط وفقاً للظروف الأمنية.
وتفيد المصادر التاريخية أن والي دمشق كان يقوم بمهمة (أمير الحج) مكلفاً من السلطان العثماني وذلك لضمان أمن القافلة وحمايتها, وكانت هذه المهمة الجسيمة تعد مقياساً لمدى نجاح الوالي في منصبه، ويقال إن السلطة العثمانية مدّت في ولاية أسعد باشا العظم، والي دمشق، أربعة عشر عاما لنجاحه بالقيام في مهمة إمارة الحج على خير وجه.
وكان يميز الحج الشامي أمر أطلق عليه (محمل الحج الشامي)، ويقدم الكيال في كتابه تعريفاً لـ(المحمل) فهو لغة: شقتان على البعير يحمل فيهما العديلان, ومنها الهودج التي هي مراكب للنساء على الجمال, وهو يختلف عن المحفة من حيث أن المحفة لا سقف لها في حين أن الهودج له سقف (مقبب). وبالنسبة لقافلة الحج فإن اصطلاح المحمل يعني هيكلاً خشبياً يعلوه هرم أو قبة مزينة بالحلي والنفائس يحمله جمل قوي مزين هو الآخر بمختلف أنواع الحرير ومغطى بفاخر القماش. وكان بداخل المحمل مصحف مغطى بالحرير.
ومع ذلك فإن (المحمل) هذا لم يكن يشكل جزءاً من طقوس الحج ولا من متطلبات قافلة أو ركب الحج وكذلك لا يستفاد منه للركوب فلا ينقل فيه شيء من المتاع أو الأغراض المتعلقة بالقافلة أو بأمير الحج، بل كان كل ما (يحمل) فيه هو نسختان من القرآن الكريم. فهو والحال هذه لا يعدو كونه رمزاً يمثل السلطة التي يعود إليها ركب الحج المصاحب للمحمل، وترجع بعض المصادر تاريخ المحمل إلى حوالي سنة (654) هجرية. فقد رحلت في هذه السنة (شجرة الدر) زوج السلطان الأيوبي الصالح أيوب إلى مكة لأداء فريضة الحج فركبت هودجاً واحتفل بسفرها احتفالاً شائقاً, وأصبح ذلك سنّة متبعة سنوياً, ومن ثم حذت الأقاليم العربية حذو مصر في ذلك.
وعند عودة الحجاج من بيت الله الحرام فإن الاحتفالات، التي تأخذ طابعاً دينياً هادئاً، تكون في انتظارهم، فالحاج يجلب الكثير من الهدايا للأقارب والأصدقاء والجيران، أما هؤلاء فيعبرون عن فرحتهم بقدوم الحاج بشتى السبل، فأهل الحاج يزينون الدار بعبارات من قبيل (حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً)، وتستمر هذه المباهج لأيام عدة حيث يروي الحاج قصصاً عن الحج وعن الأجواء الأسطورية؛ الروحانية التي خبرها وهو ما يدفع المستمعين إلى الاستعداد للالتحاق بقوافل الحج في السنوات المقبلة ليبقى هذا الطقس مستمراً ومتواصلاً عبر القرون.
وكان من الطبيعي أن يلهم الحج قريحة الشعراء والكتاب، ويحفل التراث الأدبي في بلاد الشام بقصائد تتحدث عن الحج والطقوس التي ترافقه، والانفعالات التي تنتاب الحجيج وهم يمارسون تلك الشعائر الروحانية، ولعل ما يخطر في البال هنا قصيدة (الكعبة الزهراء) للشاعر السوري بدوي الجبل الذي تخيل أنه يسير في رحلة إلى بيت الله الحرام، ويعتذر عن عدم تحقيقها، ويرسم مشاهد وجدانية مفعمة بالصور التي تعبر عن جمالية هذا الطقس:
وأقعدني عنك الضنى فبعثتها
شوارد شعرٍ لم ترع بضريب
أقمت وآمالي إليك مجدة
تلف شروقًا معتماً بغروب
ويمضي الشاعر في قصيدته، إذ يصور الكعبة الزهراء والنور الذي يتدفق من جنباتها وشذا الوحي الذي يلف الأرجاء, مشيراً إلى أماكن مقدسة ترمز إلى الورع والتقوى وتترك أثراً طيباً في النفوس لا يمحى:
بنور على أم القرى وبطيب
غسلت فؤادي من أسى ولهيب
لثمت الثّرى سبعاً وكحّلت مقلتي
بحسن كأسرار السماء مهيب
وأمسكت قلبي لا يطير إلى (منى)
بأعبائه من لهفة ووجيب
فيا مهجتي : وادي الأمين محمد
خصيب الهدى: والزرع غير خصيب
هنا الكعبة الزهراء والوحي والشذا
هنا النور فافني في هواه وذوبي
ويا مهجتي: بين الحطيم وزمزم
تركت دموعي شافعاً لذنوبي
وفي الكعبة الزهراء زينت لوعتي
وعطر أبواب السماء نحيبي
ويصف الشاعر بدوي الجبل في هذه القصيدة قوافل الحجاج التي تسير كالموج وهي تلح في الدعاء والتضرع الى رب العالمين، ويلاحظ تنوع الأجناس والألسنة والأقوام التي تشكل خليطاً بشرياً قدم من شتى أصقاع الأرض دون أن يجمعها شيء سوى الخشوع لله:
مواكب كالأمواج عج دعاؤها
ونار الضحى حمراء ذات شبوب
ورددت الصحراء شرقاً ومغرباً
صدى نغم من لوعة ورتوب
تلاقوا عليها من غني ومعدم
ومن صبية زغب الجناح وشيب
نظائر فيها: بردهم برد محرم
يضوع شذًا: والقلب قلب منيب
أناخوا الذنوب المثقلات لواغب
بأفيح -من عفو الإله- رحيب
وذل لعز الله كل مسود
ورق لخوف الله كل صليب
ولا يغفل الشاعر في هذه القصيدة، التي تعد نموذجاً للشعر الذي يحتفي بالحج، أن يثني على الإسلام الذي وحد الشعوب والأمم ومحا الفوارق بين البشر وبث في قلوبهم نور الهداية والحق والجمال:
ويا رب في الإسلام نور ورحمة
وشوق نسيب نازح لنسيب
فألف على الإسلام دنيا تمزقت
إلى أمم مقهورة وشعوب
سجايا من الإسلام: سمح حنانها
فلا شعب عن نعمائها بغريب
إن من يقرأ هذه القصيدة يشعر نفسه وكأنه يتجول في الأماكن المقدسة ويشم عطر الجنة، ويستعيد طقساً دينياً لم يخفت بريقه رغم مرور السنوات.